والفضل ما شهدت به الأعداءُ

6 د للقراءة
6 د للقراءة
والفضل ما شهدت به الأعداءُ

د. م. منذر حدادين

قرأت مقالة السيد سيف حابس المجالي ووجدتها متزنة ومتحفظة في الحديث عن مآثر المشير الفقيد، ولديّ ما يتوجب أن أدليَ به في هذا المضمار.

 

كان التاريخ 18 شباط 1998، وكنت وزيراً للمياه والري، حين اصطحبت أمين عام سلطة وادي الأردن الشاب النابه دريد محمد محاسنة والشاب اللامع محمد ظافر العالم إلى القدس في سيارة رسمية في مشوار عمل رسمي. وبعد الاجتماعات في فندق الملك داوود زرنا الحرم القدسي الشريف وكذلك مشينا لزيارة كنيسة القيامة بعد أن ورفضنا عرض الوزير الإسرائيلي أيريك شارون إرسال مرافقين إسرائيليين وقلت له: كيف يرافقنا غرباء في التجوال في مدينتنا؟

 

ولبينا دعوة الوزير الإسرائيلي إلى عشاء في مطعم فاخر في القدس الغربية ورافقنا في استجابة الدعوة سعادة السفير الأردني في تل أبيب. وبعد الوصول والاستقبال جلسنا إلى مائدة الطعام. بدأ الوزير شارون الحديث (والحديث بالإنجليزية) قائلاً ما معناه:

أنا سعيد لأن سلاماً حلّ بين بلدينا.
وأنا كذلك، لكن لكلٍ منا أسبابه. فما أسبابك؟
كان لجيشكم سمعة مرعبة بيننا. كان يسمى الجيش العربي، وسمعته أنه جيش فتاك، لا يحتفظ بالأسرى لديه!
لا، هذا ظلم، فجيشنا هو الجيش العربي المصطفوي، مشبع بالقيم الإسلامية، وبعيد عما وصلك عن مأسوريه. وأضفت (بعد أن قلت لنفسي لماذا أبعد مخاوفه من جيشنا!):

إلا في حالة واحدة يضطر فيها الجيش العربي لفعل ما تقول إنه يفعله بالأسرى!

وما هي هذه الحالة؟
إذا حاصره العدو من كافة الجهات وعمل العدو على قطع الأرزاق. فيجد الجيش العربي المحاصر نفسه مضطراً إلى اتخاذ أسراه غذاءً!

استأنف شارون حديثه وقال:

كلفني جيش الدفاع الإسرائيلي بقيادة مجموعة من 22 جندياً بعد إعلان دولة إسرائيل وأعطاني مهمة إخراج الجيش العربي من دير اللطرون. واقتربنا من سور الدير وأمطرنا الجيش العربي المتمركز في بيت حنينا بوابل من المدفعية.

( هنا دعست بقدمي على قدم دريد المحاسنة الجالس إلى يساري، إذ كان والده في كتيبة المدفعية المرابطة حينها في بيت حنينا)، وواصل شارون:

اقتحمنا سور الدير واشتبكنا مع مقاتلي الجيش العربي بالسلاح الأبيض ولم ينج منّا أحد. وأصبت بجرح عميق في فخذي الأيسر وباشرت الزحف للخروج من الميدان. وللآن لست أدري كيف وصلت همتي إلى القدرة على تسلق جدار السور والسقوط خلفه، وواصلت الزحف إلى الطريق وجاءت سيارة هاغاناهحملتني إلى المستشفى وأخرجني الجرح الذي كان أول وآخر جرح في حياتي العسكرية من حرب 1948.وعلقت قائلاً:
ربما هبطت عليك القوة الجسمانية لتسلق السور والخروج من الميدان بسبب خوفك من أن يأسرك الجيش العربي وتصبح ضمن أرزاقه!!!

أسهب الجنرال الإسرائيلي في مدح شجاعة أفراد الجيش العربي، وكيف أنهم أفلحوا في أيقاف التمدد الإسرائيلي إلى القدس، فتذكرت الأبطال الأشاوس من قادتهم: حابس المجالي وعلى الحياري وعبدالله التل، وشراسة كتائبهم في حرب 1948 وفي الدفاع عن القدس الشريف.

دار حديث آخر عن الجيش العربي ربما تسنح الفرصة لذكره في مناسبة قادمة. فكل نشاطات الجيش العربيتبعث الفخر فينا وتدعونا للدعوة له ولقيادته بالنصر دائماً.

كنت أعلم من صغري عام 1948 أن قائد الكتيبة الرابعة المرابطة في اللطرون، وخاضت أيضاً معركة باب الواد للحفاظ على القدس، كان حابس بن إرفيفان المجالي، ذلك لأن ابن عمتي الشاب نجيب عايد حدادين كان من عناصر الخدمات الطبية الملكية في الميدان، وكانت عمتي كثيرة القلق على بكرها الشاب، وكانت تردد اسم قائد الكتيبة حابس وتدعو له بالسلامة.

وبعد يومين من عودتي إلى عمان دلفت إلى منزل المشير العامر في حي العبدلي واستقبلني كعادته الاستقبال الحسن بوجهه البشوش. وكان يزوره في مضافته رجال يقارب عددهم الثلاثين. وعلى مسمع منهم جميعاً قصصت الذي دار مع الجنرال شارون. قال المشير جزيل الاحترام والتقدير:

إي بالله، إي بالله، كنت قائد الكتيبة ومعي في بناية الدير نائبي محمود المعايطة أبو ساهر وفهد الغبين ركن عمليات الكتيبة. وكان الاشتباك بالسلاح الأبيض. إلا أن ثلاثتنا اتخذنا ما ارتأيناه احتياطاً، وهو أن وضعنا في بيت النار في كل من مسدساتنا طلقة واحدة هي أخر ذخيرتنا لو تغلّب العدو علينا في تلك المعركة. إذ قررنا أن يكون كل منا جثة هامدة، ولن نعطيهم شرف أسرنا أحياء.

هذا كان المشير منذ بدايات نشاطاته دفاعاً عن فلسطين يعلو هامته شعار الجيش العربي وتاج قائده الأعلى. وكان أبو سطام عسكرياً أشمّ تشهد له مواقع المعارك في فلسطين ويشهد له تراب الأردن من الطرّة إلى الدرّة، وندين له كأردنيين ولرفاقه في الحفاظ على سيادة البلاد والدفاع عن حياضها، والإخلاص لترابها الطهور ولمليكها المفدى.وأختم بقول المرحوم صديقي الشاعر تيسير رزق السبولفي رباعياته:

نخب ذكراهم، على أرواحهم منا السلامُ

الأحباءُ الأحباءُ قليلاً ما أقاموا

دارت الدنيا عليهم دورةً أو دورتين

وهوَت حباتهم تترى، ومالوا ليناموا

فليهنأ حابس وليهنأ رفاقه الأشاوس بالراحة الأبدية، رحمهالله ورحمهم وغفر له ولهم، ورحم ابنه الدكتور سطام الذي تشرف أيضاً بالخدمة العسكرية وسبقنا إلى دار الحق، وأبقى من بقي منهم بين ظهرانينا وأدامهم، إنه سميع مجيب

Share This Article