الملك واليوبيل الفضي …قراءة في واقع متقلب

9 د للقراءة
9 د للقراءة
الملك واليوبيل الفضي ...قراءة في واقع متقلب

صراحة نيوز _الدكتور عبدالمهدي القطامين

حين تسلم الملك عبدالله الثاني سلطاته الدستورية كفاتحة للمملكة الرابعة بعد رحيل والده الملك الحسين الذي ارتبط بذاكرة الاردنيين على انه ملك محبوب يتقن فن المناورة الدولية ويتقن فن مخاطبة الجمهور والمواطنين بروح ابوية دافئة وبتلك اللغة العربية السليمة الفخمة كما يقول عنها اهل اللغة كان الحسين ملكا وانسانا في آن واحد ، وجاء الملك عبدالله الثاني متميزا بمهارة فائقة وفخمة ايضا في الخطاب باللغة الانجليزية وكانت تلك احدى السمات التي مكنته من مخاطبة العالم باللغة التي يعرفونها ليحافظ على توازن دولي كانت الاردن فيه تشكل بيضة القبان في الامور التي تخص الاقليم وتتعداها الى الاتزان العالمي وبدا للجميع مراقبين ومتابعين ومحللين ان المملكة الرابعة ستكون بنهج جديد واسلوب مختلف عما سبق .

حين بدأ الملك القادم من المؤسسة العسكرية يمارس مهامه كملك وباعترافه هو نفسه في احدى خطاباته ” لقد نمت وانا رب لعائلة مكونة من خمسة افراد فاذا بي اصحو وانا رب عائلة مكونة من ستة ملايين انسان ” كانت تلك الحقيقة تضع الملك الجديد امام تحد اخر فقد تسلم تركة ثقيلة على الصعيد الداخلي الاقتصادي تمثلت بتوقف الدعم الذي كان يأتي من مختلف دول الخليج للمملكة وان استمر بعض الدعم الذي لم يستهدف البقاء للمملكة بحيوية بل يمكنها من البقاء في ذات المكان وعلى رأي العسكر “مكانك سر ” وتسلم الملك ادارة عامة متراجعة في كافة مستوياتها وبدت الشركات الوطنية التي اسست في عهد الملك الراحل الحسين بالكاد تقف على قدميها بل ان بعضها راح يشكل استنزافا لموارد الدولة المحدودة وهنا بدأت فكرة الخصخصة وتحويل تلك الشركات من عامة الى خاصة وهي التي كانت تشكل حاضنة للاعمال والوظائف تاريخيا وتزامن ذلك مع ولوج بعض الليبراليين الجدد في مراكز صنع القرار وهم في اغلبهم كانوا قد تخرجوا من جامعات دولية مرموقة شكلت شخصياتهم بمفهوم اقتصادي مجرد ليس للعاطفة فيه اي مكان وكانت نصائحهم للملك وتقاريرهم تشير الى ضرورة خصخصة تلك الشركات لانقاذها من النزف المتواصل في ايراداتها وهو ما حدث لاحقا وكانت الفلسفة ان تحول كل ايرادات الخصخصة في صندوق استثماري وطني يمكن له ان ينهض بالكثير من القطاعات لكن المفاجأة المرة كانت ان ذلك الصندوق لم يستمر طويلا ليعلن افلاسه بعد ان امتدت له ايدي صناع القرار عبر شراء بعض الديون من الجهات الدائنة فحصل المأزق الاقتصادي الذي ما زالت المملكة تعيشه حتى اللحظة ثم بدأت مسبحة الديون الخارجية والديون العامة تكر لتصل الى سقف مأساوي يعادل ما يزيد على 95 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي في حين انه كان بحدود 60 بالمائة في بدايات عهد الملك عبدالله الثاني .

الكثير من المحللين يتسائلون عن سر ارتفاع الدين العام على المملكة الى هذا الحد الكارثي متناسين انه ضريبة لا بد منها في ظل غياب المعونات الخارجية التي كانت ترفد الخزينة بالكثير من المال وفي ظل هدر واضح في اداء الادارة العامة وتلاعب البعض في مقدرات الوطن في ظل غياب واضح للمساءلة والحقيقة ان ما تقدم هو جزء وسبب لتنامي الديون ولكن ايضا هناك المشاريع الرأسمالية والبنى التحتية التي امتدت على مختلف محافظات المملكة والتي تستهلك ايضا اموالا طائلة .

بعد وقوع اكبر كارثة على مر التاريخ العربي الحديث والمتمثلة باحتلال العراق وهو البعد الاستراتيجي التاريخي للمملكة اغلق تماما منفذ اقتصادي كان على الدوام المنقذ للاقتصاد الوطني الاردني وكان السوق التجاري الرئيس للمنتجات الاردنية وبدا ان الاقتصاد الوطني سيغوص مرة اخرى في الديون بانتظار لحظة امل لم يكن لها اي بصيص يلوح في الافق لكنه ظل املا يعلق الكثر على قدومه حتى اذا جاء الربيع العربي في عدة اقطار عربية ليحكم حلقات الازمة وكان له هزاته الارتدادية في المملكة التي ظلت بمنأى عنه فيما لاحت في الافق مظاهر تذمر وشكوى وكانت لاسباب اقتصادية في جلها ولم تلامس البعد السياسي او النظام الحاكم كون النظام يمثل صمام الامان الذي يحفظ امن الوطن ووحدته وبقائه في اقليم بات يموج بكل انواع الصراعات .

تعامل الملك عبدالله الثاني مع الحراك الاردني بروح طيبة ولم يلجأ كما لجأ البعض من الحكام الى العنف في مواجهة المد الشعبي الباحث عن فرصة للعيش فقد توحد الناس وقوات الامن في صورة رائعة جميلة وكانوا يتسامرون في مواقع الاحتجاج والتظاهر ومضت موجة الربيع الاردني دون ان يسفك دم اردني واحد لكن المعاناة الاقتصادية ظلت كما كانت وكانت الحكومات الاردنية المتعاقبة تتعامل مع الناس بطريقة بدت في اغلب احيانها باردة باهتة خالية من المشاعر وفيها الكثير من تحدي الرأي العام وعلى الرغم من ان تشكيل الحكومات وحلها هو منوط بالملك عبدالله الثاني الا ان الرأي الشعبي ظل مقتنعا ان اداء الحكومات ومدى قدرتها على التاثير بحياة الناس هو امر يعود اساسا الى تلك الحكومات وليس للملك الذي يشكل ويوجه والدليل على ذلك ان الملك ذاته شكى اكثر من مرة ان الحكومات لا تلتقط رسائله وتوجيهاته كما ينبغي ، لذلك كانت السمة السائدة لتشكيل الحكومات سرعة التشكل والتبديل والتعديل فيما ظلت مسألة اختيار الوزراء لا تعدو كونها التقاط ورقة تحمل اسما من داخل صندوق فيه خمسين او مائة اسما لا اكثر.

كان التحدي الجديد امام الملك عبدالله الثاني هو ما جاء به الرئيس الامريكي السابق “ترامب” على شكل صفقة قرن مبهمة لم يعرف لها اصلا ولا رأسا لكن ملامحها العامة كانت تشير بوضوح الى انهاء قضية فلسطين لصالح اسرائيل وخلخلة كل توازنات المنطقة وتبديل التحالفات بحيث تصب كلها في صالح الكيان الاسرائيلي الذي تربطه معاهدة سلام مع المملكة فالولايات المتحدة الامريكية هي الحليف الاستراتيجي للمملكة لكن تغير منطقها مع قدوم ترامب الامر الذي جعل الملك عبدالله الثاني في موقف لا يحسد عليه خاصة مع تغير النظرة الخليجية لاسرائيل وميلها الى التطبيع بلا مبرر سوى ان الحليف يريد ذلك وهو الامر الذي ازعج كثيرا الملك عبدالله الثاني فمن جانب ما زالت الولاية الهاشمية على المقدسات قائمة وهناك من يسعى لانتزاعها وهم حلفاء واصدقاء وجيران فكان لا بد للملك من التقاطع مع هكذا طموحات وفي ذلك مغامرة اقتصادية كبيرة لاقتصاد اردني يقف على الحافة وهو ما يدركه الاصدقاء قبل الاعداء ثم كانت مسألة القدس التي اعتبرها ترامب عاصمة اسرائيل الابدية فكان لا بد من ان تكون خطوات الملك الساعية الى الابقاء على التوازنات وكأنما هي خطوات في حقل الغام ليس له اي خريطة او دليل .

غول الفقر الذي نسمعه كل يوم عبر اتصالات هاتفية مع مختلف البرامج التي تبثها الاذعات الاردنية تنبىء بحجم ما يعيشه جزء من الشعب فالفقر طال الكثيرين والطبقة الوسطى اضمحلت والخوف ان تتلاشى وهي تاريخيا الطبقة التي تحفظ توازن المجتمع ويكفي زيارة واحدة لاحدى الضواحي الراقية في عمان ليرى المرء اي اختلال اصاب التوزيع العادل للثروة فقد تكومت الثروات في ايدي طبقة ضيئلة يعيشون في ابراج عاجية وفي قصور لا يملكها حتى الملك الهاشمي وهنا يبدو التساؤل الاكبر ما الذي يفعله الملك امام حقيقة كهذه ، حقيقة ثراء فئة محدودة لا تزيد عن الالاف تمتلك مليارات واخرى تكابر وتصمت على جوعها مع ان غالبيتها من الطبقة الوسطى الذين تلقوا تعليما عاليا وابدعوا في مهنهم وهنا بدا ان كل مؤسسات الدولة هي المسؤولة عما وصل اليه المجتمع في ظل غياب التوزيع العادل للثروة ومكتسبات التنمية .

في الخمس والعشرين الماضية تبدو مسيرة الملك الهاشمي عبدالله الثاني تماما كدرب الالام لا بد من المضي فيها والسير والتوقف احيانا لمراجعة ما … ومن يشاهد الملك الان ويقارن بما كان عليه قبل خمسة وعشرين عاما حتما سيصاب بالدهشة فتلك السنوات القت ظلالها بقسوة على وجه الملك وسيدفعه ذلك الى الايمان بمقولة ان تكون ملكا فتلك مشكلة وان تكون ملكا في الشرق وفي دولة نامية فالمصيبة اكبر …. ولا املك في النهاية الا قول حمى الله الوطن …. حمى الله الملك … وكل عام والوطن والملك والناس جميعا بالف بخير .

Share This Article