الراحل الشيخ محمد خليل كريشان: رجل بحجم وطن، صنع تاريخاً، وسطر أمجاداً

9 د للقراءة
9 د للقراءة
الراحل الشيخ محمد خليل كريشان: رجل بحجم وطن، صنع تاريخاً، وسطر أمجاداً

صراحة نيوزـ كتب: نضال العضايلة

(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)

لمعت على مرّ تاريخ الدولة الأردنية العديد من الأسماء في شتى المجالات وأصبحت رموزًا ونماذجَ يُحتذى بها، ولطالما كان الأردنيون ولا يزالون مصّرين على أن يزاحموا على القمم رغم كلّ الصعوبات التي تقف أمامهم وتمنعهم من تحقيق المجد لهم ولبلادهم.

وفي الحقيقة نحن بحاجة إلى مجلدات لسرد قوائم بأسماء رجالات الأردن القدماء والمعاصرين، لذلك سأكتفي في هذا المقال بالحديث عن شخصية أردنية إستطاعت تخليد أسمها في ذاكرة التاريخ.

سيذكر التاريخ أن “الشيخ الجليل محمد خليل كريشان” أفنى حياته في سبيل خدمة وطنه ورفعة شأنه ولعل توثيق محطات حياته ضرورة وطنية لما يمثله هذا الشيخ الراسخ في الأرض من وعي وطني واحساسا بالمسؤولية منطلقاً من قيم ومبادئ جعلته يتجاوز بمسيرته وسيرته وتجاربه حدود التجارب الشخصية ليصبح تاريخ مرحلة لها معطياتها وخصائصها وابعادها في حياة الوطن والامة.

نعم سيبقى “ابا علي” من الكبار بأنفسهم والصالحين المصلحين من ذوي القامات الباسقة من جنوب الوطن حتى شماله، رجل قلّ نظيره، كان قابضاً على جمر الوطن من المهد إلى اللحد، عمل بما يؤمن في سبيل ما يساوي وجوده، مصارعاً بوجه تحديات الحياة الجسام، حمل حلم الأجيال حتى يومه الأخير في شهر رمضان صائماً متوضئأ، فهكذا يقابل العظام وجه الله تعالى.

تسلّح “ابا علي” بالعقيدة والأخلاق والمثل والمناقبية، وكان مثالاً للقول والفعل والعطاء، وعاش مرفوع الرأس بالعزة والوطنية الحقة، قال كلمته وعمل عمله ولا يزال هو شامخ في معان والبادية والمدن في سهول الأردن وهضابه وجباله، في كل مكان وطأته قدماه.

لقد كان “طيب الله ثراه” قيمة أخلاقية كبيرة، هو من زمن وصفي التل وهزاع المجالي وحابس المجالي وسالم ابو الغنم، وعبدالقادر التل ومحمود كريشان، من زمن الأخلاق في الوطنية والشهامة في المسلك والالتزام بقضايا الوطن والناس، عاش كبيراً بمواقع وبدون مواقع وكان ويبقى رمزا لهذا الوطن المعطاء الذي نعتزّ به، كان طيّب المحيا صافي السريرة شديد العزيمة ولهذا تجد الكثيرون يعترف له بأفضال كثيرة عليهم، رحمه الله.

في الزمن الصعب يفتقد الرجال لكن العزاء بأنّ الشيخ الكبير ترك أثراً كبيبراً ونموذجاً من الإلتزام والتراكم الذي أضحى قدوة يُحتذى بها، انه عمر الكبار الذي يشمخ بحامله، سنديانة من سنديانات الأردن الشامخة، فيا حضرة الشيخ الجليل، يؤلمني أن أكون اليوم في غيابك، ولكن يا حضرة الشيخ إنّ مسيرتك الوطنية المشرّفة ستبقى خالدة فينا إلى الأبد.

كان “الشيخ محمد خليل كريشان” الذي ولد في معان في العام 1932، رجلاًَ من أخلص وأصلب وأوعى رجالات بدايات تأسيس الدولة الأردنية، كان يتحلى دائماً ببعد النظر والتروّي والعقل والحكمة رجل منذ ولادته وحتى مماته لم يكن هناك من يشبهه وطنياً بامتياز ثابتاً على مبادئه بكلّ إخلاص وتفان، صديقاً كريما للجميع، أخاً كريماً معطاءاً لا يشق له غبار.

والشيخ “ابو علي” هو النجل الثاني للشيخ خليل حسين كريشان “أبو عطالله”، الذي كان احد كبار تجار معان ومن أعيانها ورموزها ووجهاءها وواحد من رجالات الرعيل الأول من الذوات الأردنيين الذين التفوا حول القيادة الهاشمية المظفرة وساهموا في تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية، وشارك رحمه الله في المؤتمر القومي العربي الأول الذي عقد في مقر الدفاع الوطني في معان، والذي شهد مشاركة قادة وزعماء وشيوخ العرب من بلاد الشام كافة.

ولم يكن غريباً على الشيخ ابو عطالله ان يكون واحداً ممن أصدروا ذلك البيان القوي الذي أكد على تمسك وتشبت الأمة العربية بحقوقها الوطنية المشروعة التي حرمت منها بسبب سياسات التتريك، وأهمها حقها في إنشاء الدولة العربية المستقلة في المشرق العربي.

لقد كان الشيخ خليل وابناؤه الذين حملوا الراية من بعده مخلصين ومواضبين على عهدهم ومحافظين على وعدهم ومتمسكين ببيعتهم للشريف الهاشمي، خادمين لوطنهم ومليكهم وأهلهم وأبناء عشيرتهم ومحافظتهم، باذلين قصارى جهدهم لدعم وتأييد وترسيخ دعائم حكم الهاشميين بقيادة المغفور له الملك عبدالله الأول بن الحسين والمغفور له الملك طلال بن عبدالله والمغفور له الملك الحسين بن طلال.

تلقى شيخنا الكبير “ابا علي” تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس معان، ثم انتقل بعد ذلك لمواصلة دراسته الثانوية في مصر ومن بعدها حصل على شهادته من كلية الحقوق بجامعة القاهرة.

ومن أجمل ما مر بحياته انه رحمه الله زامل خلال دراسته في مصر الشهيد صدام حسين، كما كان جارا وزميلاً وصديقاً صدوقاً للمرحوم سليمان عرار “أبو محمد” والمرحوم يوسف العظم والمرحوم أحمد العقايلة “أبو نبيل” وغيرهم من رجالات معان ومثقفيها الذين تلقوا تعليمهم الثانوي والجامعي في جمهورية مصر العربية.

لقد كان “طيب الله ثراه” ملتزمًا تجاه أبناء معان الأبية ووقف معهم في مواقف لا تعد ولا تحصى فساهم رحمه الله في توظيف وإيجاد فرص العمل لعدد كبير من أبناء معان، وتحديداً من الخريجين وحملة الشهادات الجامعية على اختلاف مستوياتها، وكان الكثير من أبناء معان المدينة والمحافظة يلجأون إليه للمساعدة في الحصول على فرص العلاج في مستشفيات العاصمة الأردنية عمان، في ظل تدني وبساطة الخدمات الطبية المتوفرة في محافظة معان آنذاك.

وبحكم موقعه في وزارة الخارجية كان له رحمه الله صولات وجولات ودور مهم وبارز في حل مشاكل المواطنين وإصلاح ذات البين بين أبناء الأردن كافة، كما كان له دور ريادي في إيصال مطالب المواطنين من أبناء معان إلى صانع القرار، وكانت له مواقف وطنية حاسمة وهامة خلال الفترات العصيبة والأزمات التي مر بها الوطن خلال العقود الماضية، فكان مكتبه في وزارة الخارجية وبيته في وادي صقرة ديواناً ومزاراً وملجأ آمناً لكل ذي حاجة كائناً من كان من أبناء الوطن.

لقد كان شيخنا الجليل رمزاً من رموز معان والأردن الصادقين الثابتين على الحق والفضيلة، المتمسكين بالمبادئ والقيم السامية والأخلاق الحميدة العالية، إذ ذاع صيته الحسن وسمعته الطيبة في الأردن وفلسطين والسعودية، بعد أن واصل رحمه الله العمل على مدار عشرات السنوات متفانياً في خدمة وطنه ومليكه وأهله من أبناء محافظة معان باديتها وحاضرتها وبمختلف عشائرها وعلى اختلاف مشاربها ومنابتها وأصولها.

وللوجاهة في حياته حضورها فقد كان وجيهاً وصاحب رأي وحضور إجتماعي قوي، وكان طرازه نادراً بين الرجال، وكان ممن أنكروا ذاتهم لأجل الآخرين وممن نذروا أنفسهم وحياتهم وجهدهم لخدمة مجتمعهم وأهلهم وعشيرتهم، فكان طيب الله ثراه واحداً من تلك الشخصيات الأردنية المعانية الأصيلة المتميزة الوازنة، بل ان شخصيته حملت في ثناياها أخلاق الفرسان وقيم الرجولة والشهامة والمبادئ العليا والأخلاق النبيلة.

لقد كان “ابا علي” عليه رحمة الله زعيماً في قومه وأهله وأميراً في ربعه وعشيرته، صبوراً متأنياً ذو رأي رشيد وقول سديد ومن المؤثرين في المحافظة بأكملها، رجلاً ذا فضل وفضيلة، صاحب رأي ورؤية، حكيماً، راعي نخوة وكرم وجود وذو مروءة وشهامة وطيب وصاحب خلق رفيع، يغيث الملهوف ويعين المحتاج ويكرم الضيف ويطعم الجائع ويكرم المساكين ويحسن إلى الأيتام والأرامل وعابري السبيل وغريب الديار.

لم يرد أحداً ولم يكسر بخاطر إنسان، له الفضل في توحيد صف العشيرة وتقوية كلمتها وإعلاء شأنها، من رجالات معان الأفذاذ ومن آحاد الأردن الأجواد، ومن القيادات والقامات الوطنية الباسقة التي يشار إليها بالبنان، ومن الذين لا تزال ذكراهم عطرة وسيرتهم طيبة زكية.

إن رجلاً بثقافة وفكر وشهامة ونبل واستقامة هذا الرجل، يجعلنا نحمل له في قلوبنا وعقولنا ذكراه العطره، فهو شخصيه رائعه تحمل في طياتها الكثير من الأخلاق،
وشخصية فولاذيه وكيف لا وهو ذو شخصيه مرموقه وصاحب نخوه وفزعه لأهله وعشيرته.

وبعد حياة حافلة بما يسر الصديق والعدو وفي شهر رمضان المبارك من العام 1995 وبينما هو صائماً متوضئاً يصلي الظهر، وعن عمر يناهز الـ 63 عاماً لاقى سيد الرجال، المخلص المتفاني الكريم المعطاء، الشيخ الجليل الكبير وجه ربه راضياً مرضياً.

ولا زلنا نذكره في زمن الملمّات والأيام الصعبة، كان مثالاً للعطاء والاستعداد العالي للتضحية، سقط جسده ونفسه مطمئنة أتمّت فعلها.

رحم الله رجلاً عاش حياته وقفات عزّ وما تراجع يوماً عن إيمانه بقضيته وقد عرفت فيه من الصفات الإنسانية ما يجعل رحيله مؤلماً وذكراه خالدة.

Share This Article