صراحة نيوز ـ د. عماد الضمور
يمارس رمضان الرواشدة في روايته «حَكي القرايا» الصادرة حديثًا مقاربة مهمة لدور الرواية الشفوية في إذكاء المخيلة الروائية من خلال لعبة سرديّة استمد أحداثها من روايات شفوية وأحداث تاريخية وقعت خلال حقبة زمنية ممتدة من تاريخ الأردن، تبدأ من عام 1834م وتنتهي بقيام إمارة شرقي الأردن عام 1921م. وهي مرحلة تاريخية تنوعت أخبارها ما بين التوثيق والرواية الشفوية، إذ تحرك رمضان الرواشدة ببراعة فنية؛ لينتج الحكاية برؤى الفن، وتجلياته الفكرية العميقة.رمضان الرواشدة نعرفه جيدًا؛ فهو الروائي المبدع، والسياسي اليقظ، والإعلامي البارع. وهو في روايته » حكي القرايا» جمع بين ذلك كلّه، إذ منح الثقل لفعل الوحدة والثورة، والمقاومة معًا؛ لتكوّن هوية ما يبدع من سرد روائي، وهو موضوع يلامس الذات المستشرفة للرؤى، التي تعمد لسرد معاناة الجماعة وصولاً إلى تشكيل هوية الأمة، ورغبتها في تحقيق ذاتها بعيدًا عن خطاب الغطرسة وفعل الإلغاء. يؤرخ كثير من الباحثين لإبداع رمضان الرواشدة بروايته الحمراوي الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عام 1994م، وهي رواية على أهميتها تحمل نسيجًا متماسكًا من البناء الروائي والنضج الفكري، حشد فيها رمضان زخم أفكاره المتصارعة في عمل روائي محكم.وفي الحقيقة فإنني أرى أن إبداع رمضان الرواشدة الحقيقي بدأ منذ طفولته
الأولى عندما اعتلى قمة قلعة الشوبك التاريخية، وأطلّ منها بقلب العاشق على وطنه المكتنز بالحضارة والعمران والتاريخ العابق بالتضحيات، ومن هذه القلعة الحصينة تشكّل وعي رمضان الرواشدة الوطني وجموحُه القومي مستحضرًا حصار صلاح الدين الأيوبي لهذه القلعة (567هـ) وهو في طريقه لتحقيق النصر الخالد في معركة حطين، حيث فلسطين الحبيبة التي لم تغب عن إبداع رمضان في أعماله الروائية كافة.لقد كتب رمضان الرواشدة روايته الأولى من على ذرى قلعة الشوبك الشامخة، وسرد شهادته على العصر، حيث ولدت أفكاره المتجددة في رواياته اللاحقة. فهو يؤمن بأفكاره إيمانًا جعله قادرًا على تجسيدها في عمل فني قابل للقراءة، كذلك فإنّ رسوخ تجربة رمضان الإبداعيّة تولّدت من قدرة رواياته على التشكّل الفكري في وجدان المتلقي. إذ أبدع سيرته الروائية في روايته(جنوبي) فكتب نفسه المفعمة بالأمل والمليئة بقَصَص الإرادة، ومجابهة الحياة بفكر متّقد وعزيمة قوية.ثم عاد في رواية (المهطوان) فكتب سيرة الإنسان الوطني الملتزم بقضايا أمته ووطنه، وكأنه أراد في روايته رصد ملامح التحوّل السياسي من خلال شخصية المهطوان بعنفوانها الوطني ووهجها القومي، وسعيها إلى إبراز القيم الإنسانية النبيلة.لا أعرف وأنا أقرأ رواية «حكي القرايا» لرمضان الرواشدة لماذا استحضرت رواية الجزائري عبدالوهاب العيساوي » الديوان الإسبرطي» الفائزة بجائزة البوكر 2020، الذي صاغ أحداث فترة زمنية مرتبطة بالفترة ما بين 1815 و 1833 ليمتد قبيل احتلال فرنسا للجزائر، حيث كانت الامبراطورية العثمانية تهمين على منطقة شمال افريقيا بأكملها، إذ تميّزت روايته باسلوبه السردي التاريخي، دون الوقوع في حبائل التاريخ، ومباشرته السرديّة.كذلك استحضر رواية التونسي محمد عيسى المؤدب» حمّام الذّهب» التي أعادت سرد واقع تاريخي بتفاصيل السرد ووقفاته الزمنية، محاولاً رفد الرواية بأبعاد إنسانية خصبة.و من أبرز روّاد هذا المنهج التاريخي، الايطالي (أمبيرتو إيكو) من خلال عمله الروائي » اسم الوردة » الذي تُرجم الى عدّة لغات وحقق نجاحا منقطع النظير بعد صدورها عام1980.يطرح رمضان الرواشدة في روايته مشروعًا قوميًّا عربيًّا في مواجهة واقع الإحباط والتجزئة، إذ تتبدّى معالم هذا المشروع من خلال تخليده للأحلاف التي قامت بها القبائل الأردنية في مواجهة الأخطار الخارجية، وهي أحلاف منتجة لمعاني العزة والتضحية والفداء معمّقة لقيمة الثأر التراثية بمعانيها البطوليّة.لقد تأرجحت لغة الرواية بين العامية والفصحى، بل واتجهت إلى اللهجة المحليّة المحكية في كثير من صفحاتها في محاولة من رمضان الرواشدة إلى تجسيّد الحدث وتعميق الفكرة، والرغبة منه في الخروج من دائرة النمطي المألوف في لغة السرد والحوار، وذلك في خط متوازن يفرضه واقع التلقي، وضرورة إثراء اللغة بوصفها مرتكز الوعي القومي العربي.كما في شخصية منصور الأعمى الذي كان يعزف على الربابة أغانٍ شعبية بقيت ملازمة للوجدان الشعبي بوصفها جزءًا من قيم المجتمع، وموروثه الخصب؛ لما تجسّده من جاذبية فنية، وحالة فكرية راسخة، كما في قوله:» «يالله ع َالردي واللي تحزّم فيه… وان مات الردي يا عين لا تبكيه» (حكي القرايا، ص 10). ونقرأ مخزونًا من ذاكرة وطنية تزدهي بقصص التكافل والإنجاز، كما في أغاني الحصادين في مواسم الحصاد حيث كانت النساء ينشدن بعزيمة وإشراق:تلولح بالمنجل ودوّر..وارمي للزينات غمورهات مروّة هات مروّة..والعزيمة بدها قوّةبدها ساعد بدها قوّة..سبعك يل ما بيك مروّة». (حكي القرايا، ص10).يسرد رمضان الرواشدة بلسان الرواية الشفوية الحاد، وبلغة الوجدان الشعبي المتقد، وكأنّه أراد الخروج من مأزق التاريخ وتتابعه الإخباري الدقيق إلى عفوية الذاكرة الشعبية وما تجود به من أحداث لا تُنسى، حيث يفصّل ما تعرضت له منطقة جنوب الأردن من غزو قبائل قادمة من الجزيرة العربية في ظل غياب سيطرة الدولة العثمانية :» يقال في الرواية.. من بعيد شاهد أهالي قلعة الكرك النار المشتعلة في قمّة قلعة «أبو حمرا»، فأدركوا أنَّ أمراً جللاً قد حدث، وأنَّ غزواً كبيراً ربما أودى بحياة الكثيرين. تنادت عشائر الكرك خلال الأيام التالية؛ للاستعداد للمسير لمساندة أشقائهم وأنسبائهم، كان «سطام الكركي» يدعو الرجال ويبثّ فيها الحماسة لنخوة إخوتهم في القلعة، في تلك الأثناء كان مبعوث «أبو حمرا» قد غادر القلعة باتجاه الكرك» (حكي القرايا، ص16).إنّ البناء اللغوي والسردي في الرواية انساق وراء الأحداث التي جسّدتها الرواية الشفوية ذات العمق الوجداني، والانبعاث التاريخي، والتحفيز الجمالي للأفكار.لقد عكست فكرة (ذهب القلعة) التي بدأ رمضان الرواشدة الحديث عنها في الصفحة (53) من الرواية نقطة
تحوّل مهمة فيه، حيث الخيال الروائي الذي أنقذ به الرواية من سطوة الرواية الشفوية ليجعلها أكثرة متعة وإشراقًا بالرؤى، حيث نام راشد؛ ليرى في منامه حلمًا، وتبدأ حكاية أخرى داخل متن الحكاية الإطار:» نام مُبكِّراً على غير عادته، بعد أن أنهى صلاة العشاء على عجل، بقيت مريم تُحدِّق فيه كأنَّ شيئاً مسّها تلك الليلة. وفي تلك الليلة هاجمته الكوابيس الغريبة، رأى نفسه في أماكن تشبه الجنة، مليئة بالأشجار، وبما يشبه حور العين التي سمع الشيخ الشامي – الذي جاء يعلّمهم الصلاة في القرية – يتحدّث عنها يوم الجمعة.» (حكي القرايا، ص 54). إنّ محاولة راشد الظفر بالذهب، فضلاً عن قصة (بنات نعش) لقطات عابرة ترتبط بالواقع المعيش، لكنها في الوقت نفسه صورة لانبعاثات الخيال والرغبة في تغيير الواقع، وإحداث حالة جديدة فيه.ونحن نتحدث عن هوية المرأة الثقافية في ظل مجتمع ذكوري، تبدو صورة المرأة الأردنية في الرواية أكثر إشراقًا، ومبعث فخر واعتزاز، كما في نموذج عليا الضمور وفاطمة زوجة منصور الأعمى ومريم زوجة راشد، إذ تكشف أحداث الرواية على استشارة الرجال لزوجاتهم في أهم القضايا، وهن وقت الحرب يقفن إلى جانب رجال القبيلة يمارسن دورهن في تقديم الرعاية الطبية والمساندة إضافة غلى صورتهن الموروثة منذ القدم وهي تحفيز المقاتلين على الثأر والدفاع عن القبيلة ليبقى رد عليا الضمور مزلزلاً على رغبة الأترك بحرق ولديها السيد وعلي بقولها المنية ولا الدنية. نعثر على المكان الأردني: الشوبك والكرك والطفيلة وعجلون وعي وكثربا وسيل الحسينية….إلخ، وكأنها نماذج راسخة للأردن العظيم القوي المتماسك.لقد جاء إهداء الرواية إلى الأم بوصفها أول منابع السرد في حياته، ومنجم العاطفة الذي لا ينضب ومشعل الخيال الاستشرافي: «إلى أول من استمعتُ إلى قصصها الغرائبيّة والعجيبة التي كانت تسردها على شكل حكايات عن منطقتنا الجنوبيّة في طفولتي المُبكّرة، وأول من علّمتني السرد المُبهِر المغلّف بالتشويق.. إلى أمّي سكينة بنت الشيخ طالب الشخيبي.. رحمها الله». (حكي القرايا، ص 7).تبقى رواية » حكي القرايا» شاهدة على قيم القبيلة وقانونها القاسي المتجسّد في الثأر، وتماسكها عند تعرضها للخطر؛ فالرواية ملحمة بطولة، وقَصَص من الفداء والنخوة العربية،ووحدة الدم الأردني الفلسطيني.ويبقى رمضان الرواشدة صاحب روح وطنيّة متّقدة، تجسّدت في موضوعات رواياته التي تناولت جوانب مهمة من الحياة الإنسانيّة والاجتماعيّة والوطنيّة المنطلقة من رؤى فكرية عميقة التي تعكس مدى التزامه الصادق تجاه الإنسان والمجتمع والوطن.