صراحة نيوز – د.عبدالمهدي القطامين .
كل شيءٍ حدثَ كلمحِ البصر …. الفتيةُ يتقدمون وهم يصوبون بنادقهُم ….دويُّ قذائفٍ ورصاصُ بنادقٍ وسمتياتٍ تطلقُ نيرانها في الخارج ، وباب الغرفة الذي عاجلتهُ رصاصةٌ ليفتح على مصراعيه …. يدخلان الاثنان معا وهُما يُصوّبان بندقيتيهما نحونا ….وحدنا كُنّا انا وشقيقتي ” هيلين ” الصغرى ، لم نكد ننهض بعد من فراشنا …تقدمَ اولهما وهو يردد بصوتٍ جهوري
: هيّا بنا …هيّا لا وقتَ لدينا ….اُخرجنَ امامي الآن وحذارِ من ايّ مُقاومة
: من انتما ؟
صرختُ في وجهيهما المُلثمين بينما اتكأت على جدارِ الغُرفة فيما تمسّكتْ “هيلين ” باطرافِ ثوبي
إبتسم ابتسامة باهتةً بدتْ …. حدّق فيّ بعينيه الطالتين من وراء اللثام وقال
: من نحنُ ؟ الآن ستعرفينْ
……. في حين ردد الآخر
: نحنُ ….نحنُ من “غزة ” وقد جئناكُم على عجلْ
: يا الطافَ السماء ….من “غزة ” وهنا في كريات شمون …اي كابوسٍ اسود حلّ بنا في السبتِ المبارك
ارخى اولاهما يده ُعن زناد البندقية فيما ظلّ الاخر مُسددا بندُقيته نحونا وهو يصرخ
: هيّا لا وقتَ لدينا ، هيا اُخرجنْ
بدتْ “هيلين ” مرتجفةً خائفة ًمتمسّكةً بيديّ الاثنتين …. وانطلقنا معاً ….كانت “الروفر ” تنتظر دفعني احدهُما الى جوفها فيما إستلقت ” هيلين ” بجواري وراحتْ في نوبةِ بُكاءٍ عميقة .
بينما المركبة تنهبُ الارضَ نهباً ،التفتَ الينا الحارسُ المُسلحُ الجالس على مقعدِ جوار السائقْ …. ماداً يده بغطائين بلاستيكين للعينين وامرنا بلبسهما تناولتُ الاول ودفعتُ بالاخر الى ” هيلين ” رفضتْ بشدة ، لكنها وامام نظراتِ الحارسِ الناريّة المُهددة وضعتها على عينيها ، بعد ان شدّتْ خُصلاتِ شعرها الاشقر للخلف ، والقتْ بنفسها في حُضني وانا اردد
: لا تخافي ….. يا صغيرتيْ لا تخافي
****************************************************************
في تلكَ الليلة لم نذُقْ طعمَ النوم في تلك الغُرفة التي اُحتجزنا فيها ، وكان الصمتُ وحدهُ رفيقُنا ،
بينما كان الحارسُ وحدهُ يجيء ويروح امام بوابة الغرفة ذات اللون الازرق السماوي ، كان يرتدي لباسا عسكريا فضفاضا ويلف وجهه بلثام لا يبدو منه سوى عينيه واحيانا كان يترك الغطاء لينزاح قليلا عن وجهه لتبدو معالمه خالية من ايّ تعبير ، شفتان صغيرتان ، وذقن قصير ….حين كان يسأم من الروحة والجيئة امام باب الغرفة المغلقة بالمفتاح كان يتجه نحو الباب ، يدير المفتاح من الخارج ثم يقف بمواجهتنا تماما تلتقي عيناه بعيني ثم يشيح بوجهه نحو “هيلين” التي تكوّمَتْ مثل كُرة على الجانب الايمن من السرير بلا اي حراك ، وجهها جامدُ تماما باستثناء رفّةٍ صغيرةٍ تلوح على عينيها الزرقاويتين ….يتجهُ بنظره نحو المنضدة ِ القديمةِ الراقدة في يسار الغرفة تعلوها وجبة العشاء التي لم تمسسها يد
: لماذا لم تأكلنَ طعامكن ؟
لم ارُدْ …. وظلت “هيلين ” صامتة
وضع بندقيته قرب النافذة ، مستندا اليها …. بدا فارع الطول عريض المنكبين مفتول العضلات وكأنه يحدث نفسه راح يقول
: منذ زمن بعيد ، في العام 2002 كنت طفلاً صغيراً … ابن ست سنوات او ازيدْ قليلاً شهران او ثلاثة ، حقيقة لا يهُمني ذلك بالضبط ، ما يهمُني هو ذلك اليومُ المشؤوم …. كان والدي قد انهى صلاة الفجر وبدأ يتهيأ للذهابِ الى مزرعته ….. مُزارعاً كان …. يزرع الذرة والحمص والعدس ومن محصوله ذاك كان ينفق على عائلتنا عشرة انفار وانا …. عائلةٌ كبيرةٌ اليس كذلك ؟
نقّل بصره عبر النافذة المطلة على حقولٍ من الزرع المُحيطة بالمكان فيما الدخانُ الاسودُ يتصاعد من بعض اطرافه جراء قصفٍ جويٍّ طال تلك المنطقة …نهضَ من مكانه ، واخذ يذرع الغرفةَ جيئةً وذهاباً بينما كان يدُق الارضَ بقدميه ……
: اينَ وصلنا في الحكاية … صحيح …. كنتُ في ذلك الصباح لم ازلْ ارقُد في سريري الى جانبِ احد اخوتي العشر ، وفجأة وبدونِ سابقِ انذار صوتٌ ضخمٌ يهُز المكانَ وكأن الارض قد اعلنت غضبها بزلزالٍ كبير … ثوانٍ وانهار المنزلُ علينا جميعاً …..رحت اصرخ ومعي شقيقي الذي يُقاسمني الفراش :
ابي …. امُيّ ….
وكان كلُّ شيءٍ تشظّى وتفجّر في المنزل ، وعلى الدرجِ الخارجيّ للمنزل …..هُناك شاهدتُ ابي ….. بل الاصح ان اقول ما تبقى من ابي …… نعم شاهدتهُ للمرة الاخيرة ، كان جثة هامدة بيدين مبتورتين وساقٍ القى بها العصفُ بعيدا عن الجثة المُسجاة في بركة دم ، وعلى مقربةٍ منهُ رأيتُ امي تلفظُ انفاسها الاخيرة تحت ردم المنزل ، كانت الكتلة الاسمنتية تجثم على صدرها الاسمنت والبارود يُغطي كل شيء …….
كان صوته مُتهدجاً مليئاً بالحُزن فيما اغرورقتْ عيناهُ بالدمع ….. اقتربَ منا اكثر ، بينما أمسكَ بندقيته بصرامة ……
: هل تفهمنَ هذا ؟ بصوتٍ حادٍ فيه الكثير من الالم صرخَ في وجهينا
التصقتْ شقيقتي “هيلين ” بي اكثر واكثر … شدّت اصابعها على جنبي بقوةٍ آلمتني …..الرعبُ والخوفُ كانا يعصرانني ، ادركتُ انها النهاية فمن سيقُتلُ اولا هيلين ام انا ؟ ام انه سيقُتلنا معاً بصليةٍ واحدةٍ من رشاشه الذي امسكَ به وضّمهُ الى صدره
بصوت مليء بالشجن واقرب لحشرجةِ المُحتضر وجدتني اُردد دونَ وعي
: حقاً إنني آسفة
: لا شأن لكِ انتِ بما حدث ، فثأرنا هناك …… واشار بيده الى ما خلف غلاف القطاع ….. توجّه نحو باب الغرفة ردّهُ خلفه اغلقهُ بالمفتاح ثمَ مضى .
**************************************************************
لم نكنْ نسمع سوى صوتِ هديرِ الطائرات وقصفها الذي يشبهُ الرعد ، ذلك القصف الذي كان يلتهم كل شيء ….إرتجّت الغرفةُ والمنضدة الجاثمة فيها كأنها كانت ترقصُ رقصة الموتِ الاخيرة ، تهشم زجاج نافذة الغرفة الوحيدة رائحة البارود تتسلل من النافذة المكسورة ولم تعد هيلين وحدها التي ترتجف بل كدت اسبقها خوفا وارتجافا فهل هي النهاية ؟ وبيد من ؟ بيد الجيش الذي قيل انه لحمايتنا ……اطللت من النافذةِ المكسورة كان الدخان يصّاعد على مقربة منا ، ولمحت على مقربة من النافذة عسكريا ادركت على الفور انه حارسٌ اخر مُكلفٌ بحمايتنا
***************************************************************
عاد مُبّكرا في ذلك المساء وكان يحمل في يده كتابا وقطعتي حلوى دفع بالحلوى لي بينما ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة
: لقد احضرت لك كتابا ، انه ديوان شعر لشاعر فلسطيني اسمه محمود درويش هل تعرفينه ؟
: نعم اعرفه وقرأتُ له ايضا
يده ما زالت ممدودة بالكتاب خاطبته قائلة
: اليس هو القائلْ …. “بين ريتا وعيوني بندقية ”
رعشة خفيفة لمحتها تتشكل على وجهه بسرعة ثم تختفي وبتلعثم واضح قال
: هل تريدان شيئا ؟
: وهل تحضره لنا ان طلبنا ؟
: نعم ساحضره
: نريد رقعة شطرنج نبدد بها هذا الزمن المتثاقل
: تم ….. رد ….. وانطلق مسرعا نحو الباب
**************************************************************
لم يُطل الغياب هذه المرة فقد عاد ملهوفا مستعجلا وهو يردد بينما كان القصف يشتد في محيطنا
: هيا بنا ….. فهذا المكان لم يعد آمنا انهم يقصفونه بضراوة ….سننتقل الى مكان آخر اكثر امنا …. لم يطلب منا هذه لمرة ان نغطي اعيننا وحرصت على ان اضع الكتاب الذي اهدانيه في حقيبتي وحين وصلنا الى وجهتنا النهائية قال
: هذا المكان اكثر امنا …,لكنه اقل رفاهية اليس كذلك ؟
*******************************************************
عشرون يوما مضت كأنها عشرون عاما لا اخبار تردنا ولا شيء يربطنا بالعالم الخارجي اصبح هو ملاذنا الاخير والوحيد الذي يصلنا مع لاعالم سوى عاد وعلى ملامحه بدت معالم الحبور وكان يحمل في يده رقعة الشطرنج وضعها على طرف منضدة قديمة وادار ظهره لحائط النفق بدأ يفرك يديه بفرح وهو يردد
: اننا نبلي بلاء حسنا في القتال ، لكنهم يقتلون المدنيين يرتكبون مجازر كتلك التي استشهد فيها ابي وامي ثم راح يردد يا عار بنادقهم …..يا عار بنادقهم
تعمدت ان استفزه قليلا
: هل يطول احتجازنا هنا في هذا النفق الخانق ؟ ثم قل لي اما زالت البندقية بين ” ريتا ” وعينيّ “محمود ” ؟
ربما لمحت او هكذا خيل لي بعض الخيبة على وجهه الذي تجهم فجأة وهو يردد
: لا اعلم ….. لا اعلم … الامر ليس في يدي .
جلس على الكرسي الخشبي الملاصق لجدار النفق بدا على وجهه التعب وغلالة من حزن شفيف كان يحرص على اخفائها …وضع بندقيته في حضنه وراح ينقر عليها باصابع يديه بعد ان ازاح كم قيصه الذي يرتديه وهالني ان ساعده كان مُضمدا ثمة نغمة موسيقية متنامية ترتفع بين الدقة والدقة نغمة حزينة ادركت انه يخفي امرا ما كان اليوم الرابع والخمسون منذ بدء المعركة …وهو يخفي امرا ويرفض البوح …..لا بأس ….ساستدرجه للحديث
: هل تعلم ان هيلين هزمتني اليوم في لعبة الشطرنج ثلاث مرات
فوجىء بقولي الذي قطع عليه دقاته على كعب البندقية …. رنا اولا الى هيلين ثم التقت عيناه بعيني وكانت ومضة الحزن تبدو بوضوح هذه المرة وبصوت خافت ردد
: هكذا هي الحروب كلها ، لا بد من منتصر ومهزوم فيها …. حتى في لعبة الحب هناك مهزوم ومنتصر ايضا ….هل تعلمين ان اجمل ما في الحرب انتهاؤها …..
اشاح ببصره نحو الانارة الخفيفة المنبعثة من سقف النفق ثم واصل حديثه الهامس
: لدي اخبار مفرحة لكن
: ولماذا انت صامت كل هذا الوقت …..بربك ماذا لديك ؟
: اليوم ستغادرن هذا المكان والى الابد
بصوت واحد خائف مرتعد رددنا انا وهيلين معا
: الى اين ؟
لم نصدق ما سمعناه منه …. فهل نحن في حلم ام انه ؟؟؟؟؟؟ هو صادق في كل شيء منذ 54 يوما ولم نسمع منه سوى الحقيقة والصدق …قفزت هيلين من على طرف الاريكة ارادت معانقته لكنه دفعها برفق وهو يقول
: استعدا للرحيل بعد قليل
كانت مركبة الصليب الاحمر بانتظارنا امسك بيد هيلين اولا وهي تصعد درج المركبة العالي وحين استقرت على مقعدها عاد لي مجددا …..همستُ بصوت ضعيف
: ما زالت رقعة الشطرنج معي فهل تسمح لي بها
: هي لك …. هي لك
لوحت له مودعة بينما كانت سماء غزة ترتدي لونها الاسود جراء القصف …. رفع يده مودعا هو ايضا واختفى بين الحشود التي احاطت بالسيارة التي اقلتنا .
“انتهى “