مآلات الحرب في غزة وتأثيراتها الإقليمية والدولية
مع اقتراب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وابرام صفقة تبادل الأسرى بين الأطراف المتحاربة، تدخل المنطقة مرحلة جديدة، تكتنفها التوترات والترقب، وتزخر بتوقعات لا يمكن تجاهلها. هذه الحرب، التي تُمثل واحدة من أكثر المواجهات تأثيرًا في العقدين الأخيرين، لم تكن مجرد صراع عسكري فحسب، بل كانت حلقة مفصلية في صراع استراتيجي واسع النطاق، تتشابك فيه المصالح الإقليمية والدولية، وتعيد رسم خريطة القوى في الشرق الأوسط.
إسرائيل، التي انطلقت في هذه الحرب بأهداف استراتيجية محددة، على رأسها تحجيم تهديد الفصائل الفلسطينية لأمنها، تجد نفسها اليوم أمام مشهد مغاير تمامًا. فعلى الرغم من الدمار الواسع الذي خلفته الهجمات الإسرائيلية على غزة، كشفت الحرب عن تحول جوهري في مستوى قدرة المقاومة الفلسطينية على المواجهة، فالمعارك لم تكن مجرد تصعيد في الحروب التقليدية، بل كانت ساحة لاختبار التكتيك العسكري والسياسي المتطور، ما فتح الباب أمام تساؤلات صريحة في الداخل الإسرائيلي حول جدوى استراتيجيات الردع التقليدية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن إسرائيل قد حققت مكاسب واضحة خلال الحرب، إذ سعت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية للفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها الأنفاق والصواريخ، وهو الهدف الذي ظلت تسعى لتحقيقه. ورغم صمود المقاومة، تمكَّنت إسرائيل من إضعاف قدرة الفصائل بشكل واضح على المدى القريب، وتمكنت من تحصين جبهتها الداخلية عبر “القبة الحديدية”، التي منعت تدمير المنشآت الحيوية على الرغم من الهجمات الفلسطينية المتواصلة.
من جهة أخرى، سعت إسرائيل إلى إعادة تأكيد هيمنتها العسكرية في المنطقة، محققة هدفًا آخر وهو تعزيز صورة الردع أمام خصومها الإقليميين. ورغم التساؤلات التي أثيرت حول فاعلية الردع في بداية الحرب، بذلت إسرائيل جهودًا حثيثة لإعادة فرض قوتها العسكرية، متكئة على الدعم الاستراتيجي الكبير من حليفتها الكبرى، الولايات المتحدة، مما منحها مرونة غير مسبوقة في تحركاتها، دون ضغوط حقيقية من المجتمع الدولي لوقف العمليات العسكرية أو تغيير المسارات.
أما إيران، فكانت تراقب الأحداث من موقع القوة، لكن مع تراجع واضح في نفوذها في المنطقة. حرب غزة تأتي في وقت تتراجع فيه قدرة إيران على التأثير المباشر في مجريات الصراع الإقليمي. ضرب البنية التحتية لحزب الله في لبنان وتحديات انهيار النظام السوري، أبرزت ضعف الدور الإيراني في المنطقة مقارنة بالمراحل السابقة. كانت طهران تسعى دومًا لاستغلال قوتها الإقليمية عبر دعم الفصائل الفلسطينية، ولكنها اليوم تجد نفسها أمام واقع مختلف، إذ أصبح هذا الدعم أقل تأثيرًا على توازن القوى في الشرق الأوسط، لا سيما مع استمرار الضغوط على حزب الله ونهاية النظام السوري الدراماتيكية. مما جعل إيران تبدو في موقف دفاعي أكثر من أن تكون فاعلة في قلب الصراع.
في المقابل، تواجه حماس تحديات كبيرة بعد الحرب. فبينما تمكنت من تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية رمزية، تبقى التحديات الإنسانية والاجتماعية التي يعيشها قطاع غزة، عقبة كبرى أمام أي تقدم حقيقي. قدرتها على تحويل هذه المكاسب إلى واقع ملموس لتحسين حياة سكان القطاع ستظل الاختبار الأبرز لمستقبلها السياسي. والرهان الأكبر هنا هو قدرتها على الموازنة بين دورها كمقاومة مسلحة وبين سلطتها السياسية كحاكم فعلي لغزة، وسط ضغوط دولية وإقليمية لإعادة إعمار القطاع وفق شروط سياسية معقدة، قد تكون أصعب من الحرب نفسها.
على الصعيد الدولي، نجحت الحرب في إعادة القضية الفلسطينية إلى قلب الاهتمام العالمي، وسط موجة تضامن شعبي عارمة ومواقف سياسية أكثر صرامة تجاه الانتهاكات الإسرائيلية. هذا التحول في الرأي العام الدولي يحمل في طياته إمكانية زيادة الضغط على إسرائيل في المحافل الدولية، إلا أن هذه الضغوط تبقى رهينة بحسابات الدول الكبرى التي لطالما استثمرت في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لخدمة مصالحها الاستراتيجية الخاصة.
المنطقة إذًا على مشارف مرحلة جديدة، تتسم بتوازن هش ومتفجر. إسرائيل في موقع إعادة تقييم استراتيجياتها وتعزيز قدراتها الدفاعية، بينما ستحاول المقاومة الفلسطينية استثمار ما تحقق من صمود سياسي وعسكري لتحسين وضعها. وفي الخلفية، تبقى إيران، لاعبًا إقليميًا رغم تراجع نفوذها، مما يزيد من تعقيد المشهد. هذه الحرب ليست مجرد محطة، بل هي خطوة أخرى في صراع طويل الأمد سيظل يشكل معادلات المنطقة لعقود قادمة.