صراحة نيوز ـ د. محمد عبد الستار جرادات
في منتصف مايو 2025، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ أكثر من عقد، في خطوة لاقت اهتماماً إقليمياً واسعاً، واعتُبرت نقطة تحوّل ليس فقط في مسار العلاقات الدولية مع دمشق، بل أيضاً في طبيعة التفاعلات الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط.
هذا القرار، بما يحمله من دلالات سياسية، يحمل في طياته أبعاداً اقتصادية مركّبة، تمسّ مباشرةً واقع الاقتصاد السوري، وتنعكس بصورة غير مباشرة على دول الجوار، وفي طليعتها الأردن، الذي يجد نفسه أمام فرصة اقتصادية تحتاج إلى دراسة هادئة واستعداد استراتيجي.
كما أن الاقتصاد السوري في بداية مسار طويل نحو التعافي بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب والانهيار الاقتصادي، ويقف أمام مفترق طرق. فإن رفع العقوبات يتيح لسوريا إعادة الانخراط في الأسواق المالية الدولية، ويعيد فتح أبواب الاستثمار أمام قطاعات حيوية مثل الطاقة، الإنشاءات، الاتصالات، والصناعات التحويلية.
من العزلة الرقمية إلى الانفتاح الاقتصادي
في سنوات العزلة الاقتصادية الخانقة، اضطر صناع القرار في دمشق إلى البحث عن أدوات مالية بديلة تُمكّنهم من إدارة بعض موارد الدولة خارج المنظومة المصرفية الدولية التي كانت مغلقة في وجههم. وفي هذا السياق، يُعتقد أن سوريا لجأت إلى بناء احتياطي من العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، كوسيلة للتحايل على العقوبات وتسهيل المعاملات العابرة للحدود مع حلفائها. ورغم ما تنطوي عليه هذه الخطوة من مخاطر تقلبات السوق وتهديدات الأمن السيبراني، إلا أنها عكست ذهنية براغماتية فرضها واقع اقتصادي مشلول. واليوم، مع رفع العقوبات، تنتقل سوريا من اقتصاد الظل الرقمي إلى احتمالات الانخراط المشروع في الأسواق العالمية، ما يتطلب إعادة هيكلة الأدوات المالية، وبناء مؤسسات رقابية وتشريعية تتلاءم مع المعايير الدولية، والابتعاد التدريجي عن ممارسات ما قبل الانفتاح، التي وإن كانت اضطرارية، لم تكن مستدامة.
ورغم التحديات الهائلة المتعلقة بإعادة الإعمار، والبنية المؤسسية، وبيئة الأعمال، فإن توفر الحد الأدنى من الاستقرار المالي والتشريعي قد يمهد لمرحلة من النمو الانتقالي إذا ما استُثمرت التحولات الإقليمية بعقلانية.
والأردن يحتل موقعاً استراتيجياً يستدعي مقاربة متزنة بالنظر إلى موقعه الجغرافي والاقتصادي، حيث يبدو مؤهلاً للاستفادة من الانفتاح السوري الجديد. فالمعبر الحدودي بين البلدين يشكّل شرياناً مهماً للحركة التجارية واللوجستية، كما أن السوق السوري كان – ولا يزال – امتداداً طبيعياً للصناعات والمنتجات الأردنية، خصوصاً الزراعية والغذائية والدوائية.
ولتحقيق مكاسب حقيقية، يستدعي الأمر أكثر من مجرد التفاعل التجاري التقليدي. ثمة حاجة لتبني مقاربة متكاملة تأخذ في الحسبان الاعتبارات التالية:
• تأهيل البنية التحتية الحدودية، وتحديث الإجراءات الجمركية بما يعزز انسيابية التبادل التجاري.
• مراجعة التشريعات الناظمة لتحركات رؤوس الأموال والاستثمارات، بما يسهم في خلق بيئة مرنة للشركات الأردنية الراغبة بالدخول إلى السوق السوري.
• تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص بهدف استكشاف فرص إعادة الإعمار من منظور اقتصادي لا سياسي فقط.
أما في مستوى أوسع، فإن التأثير الأوسع لرفع العقوبات لا يقتصر على الأردن وسوريا، بل يمتد إلى النظام الاقتصادي الإقليمي ككل. فمن جهة، يُتوقع أن يشهد الإقليم إعادة تموضع في ممرات التجارة والطاقة، بما في ذلك خطوط النقل البري، وربما خطوط الربط الكهربائي والمائي. ومن جهة أخرى، ستسعى قوى إقليمية – مثل دول الخليج وتركيا وإيران – إلى إعادة صياغة علاقاتها الاقتصادية مع دمشق، كلٌ وفق حساباته السياسية والاستراتيجية.
وفي هذا السياق، يبدو أن إدماج سوريا في أطر اقتصادية مثل مشروع “الشام الجديد” أو مبادرات ربط الغاز والكهرباء، لم يعد مجرد احتمال، بل خيار مطروح إذا ما توافرت الإرادة السياسية.
توصيات بنّاءة لصنّاع القرار
في ضوء هذا التحول، يمكن التفكير بمجموعة من المقاربات العملية التي تعزز استفادة الأطراف المعنية من الفرصة الناشئة:
بالنسبة لسوريا:
• إطلاق خطة إصلاح اقتصادي تدريجية تعيد بناء الثقة مع المجتمع الدولي، وتعزز مناخ الاستثمار المحلي والأجنبي.
• الشفافية في إدارة الموارد والمشاريع يمكن أن تفتح أبواب التمويل متعدد الأطراف، وتحدّ من مخاطر التسرّب المالي.
• إنشاء هيئات مستقلة لإعادة الإعمار، بمشاركة أممية أو إقليمية، قد يوفّر مظلة تنظيمية موثوقة، ويخفف من المخاوف الدولية.
بالنسبة للأردن:
• الاستثمار في البنية اللوجستية على الحدود، وتنشيط المنطقة الحرة الأردنية – السورية، يمكن أن يسهم في استعادة الأردن لدوره كمركز إقليمي للتجارة والتكنولوجيا.
• تبنّي دبلوماسية اقتصادية نشطة، توازن بين الفرص والمخاطر، قد يساعد في ضمان مصالح الأردن، لا سيما في ظل تعدد الفاعلين الإقليميين والدوليين في سوريا.
• تشجيع غرف التجارة والقطاع الخاص على استكشاف السوق السوري، ضمن أطر قانونية ومؤسسية واضحة، من شأنه تعزيز الحضور الأردني في مشاريع إعادة الإعمار.
على المستوى العربي والإقليمي:
• التفكير في آلية عربية مشتركة لتنسيق المساعدات والمشاريع الموجهة إلى سوريا، بما يقلل الازدواجية ويزيد من الفعالية.
• إدماج سوريا تدريجياً في مشاريع الربط الإقليمي – طاقة، نقل، اتصالات – قد يسرّع من تعافيها، ويُعيد خلق روابط اقتصادية بنيوية على مستوى المنطقة.
• ربط الدعم المالي بإجراءات إصلاح مؤسسي واضحة، دون فرض شروط سياسية مباشرة، يتيح بيئة مستقرة وجاذبة للمستثمرين دون إقصاء.
واليوم، هذه فرصة يجب أن تُدار لا أن تُفَوّت.
فرفع العقوبات عن سوريا لا يُعدّ بحد ذاته حلاً، بل هو فرصة معقدة، تتطلب فهماً دقيقاً للوقائع، واستعداداً سياسياً واقتصادياً هادئاً ومنظماً.
وبالنسبة للأردن، فإن اغتنام هذه الفرصة لا يعني المجازفة، بل يستدعي إدارة متوازنة تجمع بين الطموح والحذر، وبين المصالح الوطنية ومتطلبات الشراكة الإقليمية.
أما بالنسبة للمنطقة ككل، فقد تكون هذه اللحظة بداية لإعادة بناء شبكة من المصالح الاقتصادية العابرة للحدود، إذا ما رُسمت بخيارات تنموية حقيقية تتجاوز الحسابات الآنية.
واليوم، المشهد الجديد يتشكل – ومن يمتلك الرؤية والمرونة، هو من سيقود المرحلة المقبلة اقتصادياً وسياسياً.
حفظ الله الأردن تحت ظل الرعاية الهاشمية الحكيمة من كل مكروه