صراحة نيوز ـ الدكتور عبدالله جبارة
في الذكرى التاسعة والسبعين لاستقلال المملكة الأردنية الهاشمية لا نقف عند تخليد ذكرى وطنية فحسب بل نُجدد العهد بمشروع وطني متجدد يتجاوز حدود التاريخ ليصبح ممارسة يومية ومسؤولية مجتمعية وفكرًا مؤسسًا على رؤية واضحة وقيادة هاشمية حكيمة تؤمن بأن الأردن ليس دولة ساكنة بل وطن في حالة دائمة من البناء والتقدم والتحديث
اليوم وفي خضم التحولات العميقة التي يشهدها الإقليم والعالم يتجلى بوضوح أن الشباب الأردني لم يعد مجرد فئة عمرية في التعدادات السكانية بل أصبح القوة المحركة للتغيير وعنوان المستقبل وأداة الدولة لتحقيق أهدافها الكبرى إذ شكّل وعي الشباب وطاقاتهم وقدراتهم الركيزة الأساس التي تبني عليها الدولة استراتيجياتها التنموية والسياسية والاجتماعية
فالدولة الأردنية في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني أولت ملف الشباب أولوية استراتيجية حيث لم يعد تمكين الشباب شعاراً أو مطلباً نخبوياً بل تحوّل إلى منظومة سياسات وبرامج متكاملة تتوزع على مؤسسات الدولة كافة بدءاً من التعليم الحديث إلى التدريب المهني والتقني ومروراً بالمبادرات الملكية والمجالس المحلية والشبابية وليس انتهاءً بتمكينهم من العمل السياسي والمجتمعي والمشاركة في صنع القرار
ولعلّ أبرز تعبير مؤسسي عن هذا التوجّه جاء من خلال اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية التي شكلها جلالة الملك كخطوة جريئة ومدروسة لنقل الحياة السياسية الأردنية إلى مرحلة أكثر نضجاً واستدامة لجنة جسّدت إرادة عليا بتجديد العقد الاجتماعي على أسس ديمقراطية تمثيلية حديثة قائمة على الحزبية البرامجيّة وتعزيز مشاركة الشباب والمرأة كحق لا منّة وكضرورة وطنية لضمان تجدد الحياة السياسية وتعميق التجربة البرلمانية وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية
إن مخرجات هذه اللجنة لم تكن تقنية فحسب بل حملت مضموناً فلسفياً يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن ويرسخ قيم الشراكة والثقة والمساءلة ويضع الشباب في مقدمة الصفوف لا كمراقبين بل كصانعين للقرار ومنتجين للسياسات وممثلين حقيقيين عن هموم الناس وتطلعاتهم
وفي الموازاة مع التحديث السياسي تقف الدولة الأردنية أمام تحدٍ اقتصادي هو الأهم منذ عقود إذ لا يمكن بناء وطن منتج وعادل دون اقتصاد مستقل وقادر على خلق فرص عمل حقيقية وتوزيع مكتسبات التنمية بعدالة على مختلف المحافظات والفئات هنا يظهر بوضوح الدور المنتظر من الأحزاب السياسية التي دخلت إلى الحياة العامة وفق قوانين جديدة تنبني على الحزبية البرامجيّة لا الشعاراتية وعلى العمل الميداني لا الفزعات الإعلامية
وفي هذا السياق بدأت تبرز رؤى اقتصادية حزبية متقدمة لا تستند إلى الوعود الفضفاضة بل إلى تحليل واقعي للتحديات واقتراح سياسات قابلة للتنفيذ تتلخص في بناء اقتصاد وطني منتج ومستقل يرتكز على ثلاث دعائم رئيسية أولها تمكين الإنسان الأردني من خلال إصلاح منظومة التعليم العام والعالي والتقني وتوجيهها نحو متطلبات سوق العمل وثانيها دعم منظومة ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة باعتبارها قاطرة النمو الاقتصادي القائم على الابتكار والتشغيل الذاتي وثالثها تحقيق العدالة التنموية عبر توسيع تطبيق اللامركزية وتحفيز التنمية المحلية في المحافظات لضمان توزيع عادل للفرص والثروات
إن هذه الرؤية ترى أن الدولة القوية ليست فقط تلك التي تحتكر القرار السياسي بل تلك التي تشاركه مع قوى المجتمع الحية وعلى رأسها الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وتؤمن بأن الاستقلال لا يكتمل إلا بالسيادة الاقتصادية والاجتماعية حيث يصبح المواطن شريكاً لا متلقياً وقادراً على العيش بكرامة لا مجرد البقاء
وفي الاشارة الى ما سبق لا بد من التأكيد على العلاقة التكاملية بين التحديث السياسي والنهوض الاقتصادي إذ لا يمكن بناء اقتصاد منتج في بيئة سياسية رخوة ولا يمكن لحياة حزبية فاعلة أن تزدهر دون رؤية اقتصادية تؤمن بالعدالة والشفافية والنمو المتوازن كما أن تمكين الشباب اقتصادياً واجتماعياً لا يتحقق دون إتاحة المجال أمامهم للمشاركة في صناعة السياسات والموازنة العامة وتوجيه الاستثمارات الكبرى ومراقبة أداء الحكومات على أساس برامج لا شعارات
ختاماً فإن ذكرى الاستقلال ليست مناسبة عاطفية أو لحظة احتفالية فحسب بل هي محطة تقييم ومراجعة وتجديد للعهد بين القيادة والشعب وهي تذكير مستمر بأن الحرية لا تكتمل إلا بالعدالة وأن الكرامة لا تُحمى إلا بالتمكين وأن السيادة لا تُصان إلا بالإنتاج وما بين راية الثورة العربية الكبرى التي حملها الهاشميون وراية الدولة الحديثة التي يرعاها جلالة الملك عبدالله الثاني اليوم يقف الشعب الأردني بكل مكوناته البشرية كتفاً بكتف لبناء وطن مستقل الإرادة واضح الرؤية قوي البنية عادل التوزيع شامخ في وجه التحديات ومؤمن دوماً أن المستقبل يُصنع ولا يُنتظر