صراحة نيوز-أن تولد على حافة الألم، وتكبر وأنت تصارع مرضًا لا يُرى لكنّه ينهشك من الداخل… تلك ليست حكاية بطل في فيلم، بل قصة حقيقية لشاب اسمه محمد، وُلِدَ بفشل كلوي مزمن، ورافقته المعاناة منذ نعومة أظافره. لكنه لم يكن يومًا ضحية، بل كان مقاتلًا حقيقيًا في معركة لا تترك لمن يُضعف قلبه أي فرصة للنجاة. بين غرفة عمليات وأخرى، بين غسيل الكلى وحقن الإنسولين، وبين رسوب ونجاح… وقف محمد، يُنقّب عن النور في آخر النفق، ويُراهن على الحياة. هذه قصته كما عاشها، لا كما سمعناها .
محمد، من مواليد عام 2001، كان “آخر العنقود” وبهجة قلب والديه. منذ ولادته، اكتُشف أنه يُعاني من مشاكل خلقية في الكلى، تمثلت في “ارتداد البول”، وبعد سلسلة عمليات قبل أن يُكمل عامه الثاني، تبيّن أنه مصاب بـ”فشل كلوي مزمن”. كانت صدمة قاسية على والديه، اللذين أحبّاه بكل ما فيه، وكان هو قطعة القلب الأخيرة، والنبض الأقرب للروح .
استمرت رحلته مع الأدوية: “الصوديوم، الكالسيوم”، وغيرها، محاولًا بها الحفاظ على توازن جسده الهشّ. إلى أن بلغ السادسة عشرة من عمره، وعند مراجعة دورية روتينية، قال له الطبيب ولأمه جملة غيّرت مسار حياتهم :
الحالة صارت بمراحلها الأخيرة من الاستقرار، لازم تقرروا الآن يا “تعملوا عملية زراعة الكلى أو راح نلجأ لغسيل الكلى ” .
كلمات الطبيب وقعت كالصاعقة على والدته، التي وجدت نفسها أمام مفترق مصيري لا مفرّ منه: إمّا الغسيل المرهق، أو الزراعة المجهولة. وبعد استشارات عائلية، رُجّحت كفة الزراعة، فذهبوا إلى المشفى استعدادًا للبدء. والد محمد أراد التبرّع، لكن “الضغط والسكري” حالا دون ذلك، وهنا قالت الأم، دون تردد :
” أنا دكتور، جاهزة ”
وافَق الطبيب، إذ لم يكن لديها مانع صحي. بدأت الفحوصات الدقيقة لمطابقة الأنسجة، وكل شيء سار حسب التوقعات، حتى وصلوا للفحص المفصلي، الذي كشف عن “اعوجاج في المثانة البولية لمحمد”، مما استدعى نقله إلى “الخدمات الطبية الملكية” للاستشارة. لكن الأطباء هناك لم يجدوا ما يمنع العملية .
وفي خضم هذه الاستعدادات، استيقظ محمد ذات صباح، يتلوّى من الألم، يصفه قائلاً : ” سكاكين بتغز بالبطن ”
تبين أنه بحاجة ماسة وعاجلة لـ”غسيل كلى”، مما سبّب له وأهله صدمة جديدة .
كيف؟! الآن؟!
بدأ محمد رحلة الغسيل الشاقة : ثلاث جلسات أسبوعيًا، كل منها ثلاث ساعات، مع وجود “الوصلة” في رقبته , وهكذا خمد وهج حلمه بإتمام الثانوية، لا لأنه استسلم، بل لأن الواقع سدّ في وجهه كل منفذ . كان على بُعد أيام من امتحانات التوجيهي، لكن الغسيل وضع بينه وبين الحلم جدارًا من التعب . لم ينكسر، وإن انطفأ الحلم مؤقتًا، فالعزم الذي في قلبه كان أصلب من أن يُهزم، وإيمانه بالله كان الحصن الذي احتمى به في وجه الدنيا ..
بعد شهرين من الغسيل المتواصل، ومكوثه في المستشفى أكثر من أسبوعين بسبب تقلبات في التحاليل، جاء يوم الزراعة .
الثامن من رمضان، 14/5/2019، في مدينة الحسين الطبية””
دخل محمد ووالدته غرفة العمليات، يواجهان المجهول ووجهيهما في وجه بعض. وفي الخارج، أكثر من 30 شخصًا من العائلة ينتظرون بشغف وخوف عند الباب .
سأل محمد أمه بتوتر :
“يما، انتي عنجد بدك؟”
لترد بحزم وابتسامة: ” طبعًا يما ”
فقال بخوف على حياتها: “يما إذا ما بدك، والله هسا بطلع، وعادي”
فأكدت له بثقة الأم وحنانها: ” طبعًا يما بدي “.
بدأت العملية الساعة 8 صباحًا، واستمرت 7 ساعات كاملة، خرجا بعدها سالمَين بفضل الله. خرجت الأم بعد يومين فقط، قوية شامخة. أما محمد، فمكث في العناية أكثر من أسبوع، ثم أسبوعًا إضافيًا في غرفة عادية بسبب ضعف مناعته. كانت المخاوف كبيرة من رفض الجسم للكلية، لكن العلاج الدائم، ودواء مدى الحياة، جنّبه ذلك .
عاد محمد إلى منزله، لكن في غرفة معزولة لثلاثة شهور، دون أي مخالطة، ومع كمامة دائمة حتى على أقرب الناس .
وبعد شهر من العملية، وأثناء مراجعة روتينية، ارتفع السكري بشكل خطير، حيث قال الطبيب :
“أنت كيف ماشي ع رجليك؟!”
وكان الرقم 800… رقم يُدخل الكثيرين في غيبوبة .
رد محمد ببساطة: ” عادي، ماشي، ما مالي شي ”
دخل المستشفى فورًا، وقيل له إنه أُصيب بالسكري بسبب أدوية الكلى، وأنه مضطر لأخذ الإنسولين مدى الحياة .
كان عمره 18 عامًا، فحزن بشدة، وقال لوالده ذات ليلة دامعة :
” يابا، ليش أنا؟! ”
ليجيبه أبوه بحكمة تليق بالأمل :
“يابا، لا تحكي ليش أنا، ما بتعرف ربنا شو مخبيلك لقدّام.”
خرج محمد من المستشفى، ملتزمًا بـ”ثلاث إبر إنسولين في البطن يوميًا”، مع علاج الكلى .
ورغم الرسوب في التوجيهي بسبب المرض، لم يتخلَّ عن حلمه. عاد ليُعيد الامتحانات على فصول، ونجح بكل المواد عدا واحدة. وخلال ذلك، تم قبوله في وظيفة حكومية في ” أمانة عمّان الكبرى” تحت مسمى “عامل ”
جمع محمد بين العمل والدراسة، ونجح في آخر مادة وهي “الإنجليزي”، ليحصل على معدل 70.5، فرحة لم يعرف طعمها منذ سنوات. التحق بتخصص أحبّه: “الصحافة والإعلام” في “جامعة الزرقاء”، واستمر بعمله، بل ترقّى إلى وظيفة “فني شواخص مرورية ” .
محمد، الذي لم يكن مهتمًا بالدراسة سابقًا، صُدم الجميع حين حصل على معدل “امتياز” في أول فصل جامعي .
ومع مرور الوقت، بدأت جرعات الإنسولين تتقلص تدريجيًا، حتى أوقفها تمامًا، واستبدلها بـ”الحبوب”، ثم شُفي منها كليًا، بعد انتظام تام في السكر .
تذكّر حينها قول ممرض :
” الي بيجيه سكري ما بطيب منه… كله حكي ”
لكنه بعزيمته، كتب قصة استثنائية، نادرة .
محمد الآن يعمل في “قسم السوشيال ميديا – أمانة عمّان الكبرى”، ويكتب مشروع تخرّجه في التخصص الذي أحبّه وأبدع فيه: الصحافة والإعلام . وعلى أعتاب التخرّج، يحمل تقديرًا جامعيًا “جيد جدًا ”
محمد لم يستسلم للغسيل الكلوي، بل زرع كليته وأمله .
محمد لم يستسلم لرسوبه، بل عاد ونهض .
محمد لم يستسلم للسكري، بل تحدّاه وانتصر .
محمد، الآن في الرابعة والعشرين من عمره، ينظر في المرآة بكل فخر، ويقول :
“هذه قصتي الشخصية… أنا هذا الفتى ” محمد
لم أصل إلى هنا وحدي، بل بفضل الله أولًا، ثم بدعاء أمي وصبر أبي . هما سندي الحقيقي، من زرعا في قلبي القوة، وآمنا بي في كل لحظة ضعف . يكفيني فخرًا أنني ابن قلبين لا يعرفان إلا العطاء …