صراحة نيوز ـ الدكتوره زهور غرايبة
في العاشر من حزيران، يتقاطع الزمن الأردني مع ثلاث محطات تعيد تعريف الهوية الوطنية من جديد: عيد الجيش، ذكرى الثورة العربية الكبرى، ويوم الجلوس الملكي، لكل واحدة منها دلالتها، غير أن اجتماعها في يوم واحد يمنحها بعدًا يتجاوز المناسبة نحو الوعي والانتماء.
في عيد الجيش، تحضر صورة الجندي الأردني، لا بوصفه فردًا في مؤسسة عسكرية، وإنما كحارس لمشروع الدولة وكرامة الناس، وهو الأردني الذي حمل البندقية في مواجهة الخطر، كما حمل الخبز في لحظات الأزمات، وانحاز دومًا لما يحفظ الحياة ويحمي استقرارها، حيث عبر تاريخه، لم يتورط الجيش الأردني في صراعات داخلية، ولم يتجاوز موقعه الدستوري، مما أرسى تقليدًا نادرًا في محيط مضطرب.
أما ذكرى الثورة العربية الكبرى، فهي لم تكن حكاية بدأت وانتهت فقط، وإنما فكرة ما تزال حاضرة في وجدان من آمنوا بالتحرر والنهضة والكرامة، كما أنها تعتبر تعبيرًا عن طموح شعوب، وعن إرادة سياسية اختارت أن تستعيد صوتها في لحظة كان فيها الصمت هو القاعدة، ولقد شكّلت تلك الثورة بُعدًا تأسيسيًا للفكر الهاشمي، الذي ظل يرى في الإنسان العربي طاقة لا ينبغي كبتها، وكرامة لا تقبل المساومة.
ويوم الجلوس الملكي، محطة تحمل رمز الاستمرارية والتجدد في آنٍ واحد، حين تسلّم جلالة الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية، لم يكن فقط وريثًا لتاريخ، وإنما شريكًا في مرحلة تتطلب حكمة استثنائية في إدارة التحولات المستمرة، وفي ظل قيادته، واجه الأردن تحديات إقليمية واقتصادية معقدة، لكنه تمكن من الحفاظ على تماسكه السياسي والاجتماعي وسط موجات الانقسام التي طالت الإقليم.
وتحت هذه السقوف الرمزية، تتشكّل الهوية الوطنية الأردنية بوصفها حالة وعي جماعي ناضج، لا تُختزل في مفردات الجغرافيا أو روابط الدم، وإنما تتجلّى في الالتزام بالمصلحة العامة، واحترام القانون، والشعور بالمسؤولية المشتركة تجاه المستقبل، إن الهوية هنا ليست شعارًا ثابتًا، وإنما كيان يتجدد مع كل جيل، ويُعاد بناؤه عبر التجربة والمعرفة، وحضور القيم الوطنية في الحياة اليومية.
في خلفية كل ذلك، يظل المواطن الأردني هو البوصلة، والذي لم يكن يومًا غائبًا عن الفعل الوطني، سواء في لحظات البناء أو المواجهة، فقد تحمّل الضيق بصبر، وواجه التحديات بحسّ عالٍ من الانتماء، وشارك في صوغ معادلة الدولة الحديثة القائمة على التوازن بين الأمن والحرية، بين الاستقرار والعدالة.
وفي لحظة رياضية كان ينتظرها الأردنيون منذ عقود، كتب منتخب النشامى فصلًا جديدًا في الحكاية الوطنية، حين تأهل إلى نهائيات كأس العالم، ولم يكن الإنجاز مجرد فوز رياضي أبدا، وإنما امتدادًا لصورة الأردن المتماسكة، التي تستطيع أن تصل إلى المنصات العالمية رغم محدودية الموارد، فقد كان النشامى صوتًا آخر للوطن، يقول للعالم إن الطموح لا يُقاس بالحجم، وإنما بالإصرار والانتماء، لقد أثبت النشامى أن المجد لا يُعطى بل يُنتزع، وأن من يحمل اسم الأردن في قلبه قادر على تحويل الحلم إلى واقع، مهما بدت الطريق بعيدة.
الأردن، وهو يستعيد في هذا اليوم محطاته المفصلية، لا ينظر إلى الخلف باعتباره ماضيًا ساكنًا، بل مرآة لما يمكن أن يكون عليه المستقبل حين يستند إلى جذور واضحة ورؤية ناضجة، فالقيمة الحقيقية لأي احتفاء وطني، لا تُقاس بحجم الكلمات، وإنما بقدرتنا على تحويل الرمزية إلى فعل، والتاريخ إلى إلهام.
وفي زمن تُختبر فيه الدول بمدى صلابتها الأخلاقية، يقدّم الأردن نموذجًا قائمًا على الاعتدال، والانحياز الدائم للإنسان، والقدرة على ترميم الثقة بين الدولة والمجتمع في كل محطة صعبة،
فنحن في الاردن وفي العاشر من حزيران، لا نحتفل فقط بما جرى، لكننا نؤكد ما نحن مستعدون لحمايته وتطويره، دون ضجيج أو استعراض.
وبهذه المناسبة الوطنية العزيزة، أتقدم إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم، حفظه الله، بأصدق مشاعر التهنئة والولاء، مقرونة بالاعتزاز العميق بقيادتكم الحكيمة، وبدور جيشنا العربي الباسل، وبالإرث النبيل للثورة العربية الكبرى، حفظكم الله، وأدام عزّكم، وأبقى الأردن في ظلّكم وارف الأمن والتقدم.