صراحة نيوز- “ما يحرث البلاد إلا عجولها” — مثلٌ أردني قديم يصف ببساطة عميقة من يصنع الفرق على الأرض، لا من يكتفي بالتنظير أو الشعارات. وفي سياقنا الوطني، لا تنطبق هذه الحكمة على أحد كما تنطبق على الدكتور عبدالحليم دوجان البلاونة، الذي يمضي بخطى واثقة بين مفاصل الدولة، حاملًا إرثًا من العمل العام، وسجلًا لا تحجبه الضوضاء ولا تزعزعه العواصف الموسمية.
الدكتور البلاونة ليس وافدًا جديدًا على مؤسسات الدولة، بل هو من أولئك الذين ينبتون في ترابها ويشتدّ عودهم في ظلّها. سنوات من الخدمة في القطاع العام لم تكن مجرد سنواتٍ تمضي، بل كانت فصولًا متكاملة من الإنجاز، والإصلاح، وإعادة البناء. في وزارة الزراعة، حيث شغل منصب نائب الأمين العام للشؤون المالية والإدارية، واجه تركات ثقيلة، ونجح في إعادة ضبط البوصلة الإدارية والمالية في ملفات معقدة.
لكن المفارقة أن القوانين النمطية –وليس قلة الكفاءة– حالت دون توليه منصب الأمين العام حينها. ومع ذلك، لم يتوقف. بل آثر أن يُثبت أن الكفاءة لا تُعطَّل، حتى لو لم تُتوَّج بمنصب. إنها تُترجم بالأثر، وتُقاس بالنتائج.
لم يكن الدكتور البلاونة أسير البيروقراطية، بل قرر أن يخوض تحديًا جديدًا في الشركة الأردنية الفلسطينية لتسويق المنتجات الزراعية. الشركة كانت تعاني من خسائر مستمرة، وانعدام للرؤية. خلال عام واحد فقط، وتحت قيادته، تحوّلت إلى كيان رابح، تُدار برؤية استراتيجية ونظام مؤسسي محكم.
والأهم من ذلك، أنه لم يكن يسعى للاستدامة في الكرسي، بل كان قراره واضحًا: “مهمتي تنتهي عندما يُعاد تصويب المسار”، وفعلها. ترك المنصب بعد أن أعاد للشركة هويتها وفاعليتها، مفضّلًا أن يُعرف بإنجازه لا بلقبٍ على الباب.
قرار تعيينه أمينًا عامًا لوزارة العمل لم يكن اختيارًا روتينيًا، بل رهانًا حكوميًا على كفاءة موثوقة ورجل ميداني يعرف خريطة الدولة جيدًا.
فوزارة العمل وهي اليوم في قلب معادلة التشغيل والحماية الاجتماعية– تحتاج إلى من يمتلك بُعدًا ماليًا وإداريًا دقيقًا.
يتحلى بـ نقاء السيرة ونزاهة اليد، وهو ما عُرف به طوال مسيرته.
يتمتع بـ فهم سياسي واجتماعي لحساسية الملفات المرتبطة بالبطالة، وحقوق العمال، والتنمية البشرية.
واللافت أن الدكتور البلاونة قبل المهمة وهو يدرك أن الراتب أقل بكثير مما كان يحصل عليه في القطاع شبه الخاص. لكنه اختار خدمة الوطن على حساب الامتيازات، لأنه ببساطة “ابن الدولة”، لا ابن الموقع.
كالعادة، لم يسلم القرار من بعض أصوات النقد التي لا تزال تقيس أهلية القيادات بمسطرة الولاءات، لا بالكفاءة. أصوات تُعيدنا إلى منطق “المحاصصة الإدارية”، حيث يُنظر للمنصب كغنيمة وليس مسؤولية.
لكن الحقيقة أن الدكتور البلاونة لم يكن يومًا ابن حزب، أو واجهة توازنات، بل كان دومًا ابن المؤسسة، وسيرته هي جواز عبوره الوحيد، وخارطة طريقه في كل موقع خدم فيه.
في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات مطالبة بالإصلاح الإداري، وبتجديد الدماء في مفاصل الدولة، يأتي تعيين الدكتورعبدالحليم كخطوة وازنة نحو ترسيخ منطق الجدارة على حساب المجاملة، والعمل بصمت بدلاً من التصدر بلا إنجاز.
فهو نموذج للقيادة الإدارية الهادئة، التي لا تلهث خلف الكاميرات، بل تعمل خلف الكواليس لتُنتج واقعًا أفضل.
الأردن لا يحتاج إلى المزيد من الخطب، بل إلى المزيد من الرجال الرجال،محترفون، أمناء، واثقون بأن الإصلاح لا يُستورد، بل يُصنع في الميدان.. وعلى الأرض.
البلاونة ليس فقط “خيارًا حكيمًا” للحكومة.. بل هو شهادة حية على أن الكفاءة لا تغيب، بل تنتظر من يمنحها الفرصة لتُثبت حضورها.