صراحة نيوز-بقلم / المستشار الإعلامي / جميل سامي القاضي
من أعماق التاريخ، حيث قامت مملكة (باشان الآرامية) في جنوب سوريا (القرن 10-8 ق.م)، تطل علينا اليوم دروس وعبر حيث كانت مملكة باشان تسيطر على حوران الخصبة ومفترق طرق التجارة الحيوي بين دمشق وشرق الأردن والجزيرة العربية ، و قد حلم ملوكها بالتوسع غرباً نحو الجولان وشمالاً لدمشق ، بهدف السيطرة على ثروات المنطقة ، لكن أحلامهم تحطمت على صخرة الواقع الجيوسياسي الأكثر صلابة والمتمثل بعشائر بادية الشام.
هذه العشائر البدوية، والمعروفة بقوتها وحركتها وولائاتها المصلحية المتغيرة، لم تكن مجرد خصم بل كانت قوة مستقلة عصية على الاحتواء. استنزفت موارد باشان بغاراتها، وعرقلت طرق توسعها، وجعلت السيطرة على الأطراف حلماً بعيداً ، فكانت السيف الذي يقطع أحلام التوسع قبل أن تنضج .
وها نحن نرى اشباح باشان
وأحلام “إسرائيل” المتطرفة
فنقف اليوم على أطلال باشان في تلال درعا وصلخد، حيث اتضح أن بعض دوائر القرار في “الكيان الصهيوني” تستلهم – بوعي أو بلا وعي – نفس أحلام التوسع القديمة، لكن بأساليب حديثة وأهداف استعمارية صريحة وذلك من خلال السيطرة على الثروة ، حيث تسعى لتهويد الجولان المحتل والاستفادة من خصوبة حوران والسيطرة على مواردها وطرق النقل فيها ، وهدفها الأكبر العمل على تفتيت سوريا باستخدام سياسة “فرق تسد” لخلق كيانات هشة ، من خلال استغلال الأزمات لتمزيق النسيج الوطني السوري ، وهو ما يتجلى في دعم عناصر انفصالية في الجنوب وعلى الساحل السوري بشكل خاص.
وذلك في إطار استراتيجية الكيان الغاصب للتوسع شرقاً ومحاولة خلق ممرات أمنية وتوسعية ، لتمكين مشروع “إسرائيل الكبرى” على حساب الأرض العربية ، مع الضغط على دمشق والتهديد الدائم كأداة لإضعاف الحكومة السورية وإرغامها على قبول شروط مجحفة.
الا ان عشائر وقبائل البادية السورية سارعت لتكون الحاجز التاريخي ، فعلى “إسرائيل”، أن تعلم بأنها مثل باشان من قبلها، أمام واقع جيوسياسي سوري متجذر ، يتمثل بعشائر بادية الشام وقبائل الجنوب السوري فهذه القوى الاجتماعية والسياسية والعسكرية الفاعلة تشكل نواة المقاومة ولديها قدراتها القتالية والفاعلية الميدانية في مواجهة المشاريع التقسيمية والميليشيات المدعومة إسرائيلياً في الجنوب السوري ، وهي عصية على الاحتواء الصهيوني فتحالفاتها وانتماؤها الوطني السوري يجعلها حاجزاً منيعاً أمام أي اختراق أو استمالة صهيونية فهي قوة مستقلة لا تخضع للأجندة الخارجية ، تمثل استمرارية التاريخ و تذكرنا بقدرة البادية السورية على استنزاف وإفشال مشاريع التوسع الخارجية .
واليوم على دمشق توظيف التاريخ لصالح المستقبل ،
والمطلوب من الحكومة السورية اليوم ليس “تقنين” العشائر أو إخضاعها بالمعنى القمعي، بل تعزيز الانتماء الوطني عبر سياسات تنموية عادلة في المناطق الشرقية والجنوبية، والاعتراف بدورها التاريخي في الدفاع عن الأرض.
مع أهمية الإدماج المؤسسي الذكي من خلال دمج فاعليتها العسكرية والأمنية ضمن استراتيجية وطنية شاملة، كقوة رديفة للجيش النظامي تحافظ على خصوصيتها وفاعليتها المحلية، لا كبديل عنه.
الى جانب العمل على تحويل قوة هذه العشائر من عامل محتمل للتوتر (إذا أُهملت أو ظُلمت) إلى ركيزة أساسية للاستقرار والأمن الوطني في المناطق الحيوية والحدودية.
و استخلاص الدروس وفهم أن أي قوة خارج السيطرة الوطنية (وليس بالضرورة خارج المؤسسة) هي ثغرة يستغلها العدو ، فالتوازن بين الاعتراف بالدور وضمان الانسجام مع المشروع الوطني هو الكفيل بتحصين الداخل.
وفي الختام نقول : قصة مملكة باشان ليست مجرد صفحة في كتاب آثار ، بل تحذير من أن أحلام التوسع الخارجي تتحطم دوماً على صخرة الجغرافيا البشرية للأرض المستهدفة فعلى “إسرائيل”، أن تعي بأنه رغم آلة حربها الحديثة، تكرر خطأ باشان باستهدافها وحدة سوريا وشعبها.
أما عشائر بادية الشام، فهي اليوم، كما كانت بالأمس، (الدرع الحي) الذي يحمي عمق سوريا الجنوبي والشرقي ، وعلى دمشق أن تتعلم من درس باشان بأن قوة هذه العشائر، حين تُحسن الدولة توظيفها ودمجها في مشروع وطني جامع عادل، ليست تهديداً، بل هي الضمانة الأقوى ضد كل أحلام التوسع الخارجية، القديمة منها والجديدة ، فالبادية السورية، بصلابتها وحركتها وانتمائها، تثبت مرة أخرى أنها صانعة التاريخ ومن حماة الوطن .