صراحة نيوز- أ.د.بيتي السقرات / الجامعة الأردنية
تُعَدّ المرحلة الجامعية نقطة تحوّل في حياة الشباب، فهي التي تُشكّل شخصياتهم وتُزوّدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة لخوض غمار الحياة العملية. غير أن اختيار التخصص الجامعي لم يعد قرارًا يعتمد على القدرات الدراسية وحدها، بل بات خيارًا مصيريًا يحدد مستقبل الفرد ويسهم في رسم ملامح الوطن.
في الأردن، كما في كثير من الدول النامية، تتسع الفجوة بين مخرجات التعليم الجامعي واحتياجات سوق العمل. وتشير الإحصاءات إلى أن معدل البطالة بين الشباب يتجاوز 40%، ويرتبط جزء كبير من ذلك بتوجه آلاف الطلبة نحو تخصصات مشبعة، مقابل نقص واضح في التخصصات الحديثة المطلوبة مثل الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، الطاقة المتجددة، والتقنيات الطبية. هذه الفجوة ليست مجرد أرقام جامدة، بل انعكاس مباشر على واقع الشباب في صورة إحباط نفسي، هجرة للكفاءات، وأعباء اقتصادية متزايدة على الأسرة والدولة.
تلعب الجامعات دورًا محوريًا في تجهيز الشباب لسوق العمل، ليس فقط عبر التخصصات الأكاديمية، بل من خلال برامج تأهيلية عملية مثل برنامج “الاستعداد الوظيفي” في الجامعة الأردنية، الذي يمنح الطلبة ساعات تدريبية مكثفة ومهارات متنوعة تشمل الاتصال، إدارة الوقت، العمل الجماعي، التفكير النقدي، واستخدام التقنيات الحديثة. هذه البرامج ترفع من قدرة الخريجين على المنافسة الفعلية في سوق العمل، وتجعلهم أكثر جاهزية للتحديات العملية بعد التخرج.
ولا يقتصر دور الجامعات على البرامج التدريبية فحسب، بل يشمل أعضاء الهيئة التدريسية الذين يشكلون قدوة علمية ومهنية، ويقومون بتوجيه الطلبة وإكسابهم خبرات تطبيقية ضمن مجالات تخصصهم. كما تلعب الأسرة دورًا داعمًا أساسيًا، من خلال متابعة أبنائها وتشجيعهم على الانخراط في التدريب العملي، وتطوير مهاراتهم خارج المحاضرات، بما يضمن دمج التعلم النظري مع التطبيق العملي. بالتعاون بين هذه العناصر الثلاثة – الجامعات، الهيئة التدريسية، والأسرة – يمكن تقليل الفجوة بين التعليم وسوق العمل، والمساهمة الفعلية في خفض معدلات البطالة بين الشباب.
مع التطور السريع في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، أصبح من الواضح أن بعض التخصصات التقليدية ستشهد تغيرات جوهرية، بل قد يتراجع الطلب عليها بشكل كبير، بينما ستظهر تخصصات جديدة بالكامل لتلبية احتياجات العصر الرقمي. فمثلاً، الوظائف الروتينية التي تعتمد على إجراءات متكررة قد يتم أتمتتها بالكامل، في حين يزداد الطلب على مهارات تحليل البيانات، البرمجة، الأمن السيبراني، وتصميم الأنظمة الذكية. هذا التحول يفرض على الطلبة الاستعداد للتكيف مع التغيرات المستقبلية، وتطوير مهارات قابلة للتحديث المستمر، بما يضمن لهم فرصًا مهنية مستدامة في سوق عمل سريع التغير.
لمواجهة هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في السياسات التعليمية. فالجامعات مطالَبة اليوم بمواكبة التطور العلمي وفتح برامج جديدة تستجيب لمتطلبات الاقتصاد الحديث. كما أن وزارة التربية والتعليم مطالبة بتعزيز التعليم المهني والتقني، ورفع نسب الالتحاق به، إلى جانب إعادة إحياء المدارس الشاملة التي تمنح الطلبة مهارات عملية قابلة للتوظيف المباشر.
ولا يغدو هذا كافياً دون دور فاعل من الشباب أنفسهم، الذين يُفترض أن يسعوا إلى التميّز بتطوير مهاراتهم عبر الدورات التدريبية المستمرة في مجالات قريبة أو مكملة لتخصصهم. فقصص النجاح الواقعية – مثل الشباب الذين تعلموا البرمجة أو الطاقة الشمسية أو التدريب التقني – أثبتت أنها تفتح أبوابًا مهنية أقوى ومردودًا أفضل من أقرانهم الذين اكتفوا بالشهادة الجامعية.
وقد أولى جلالة الملك عبد الله الثاني هذا الملف أهمية خاصة، حيث قال:
“ضرورة توسيع فرص التعليم المهني في الجامعات؛ لأن التطوير الاقتصادي الوطني يعتمد على مخرجات تعليمية ملؤها المهارة والاستجابة لمتطلبات العصر.”
كما شدد جلالته على أن الحكومة مطالَبة بإعداد خطط لاستحداث تخصصات جامعية جديدة تستوعب خريجي التعليم المهني وتفتح أمامهم آفاق المستقبل.
إن التخصص الجامعي لم يعد مجرد خيار فردي، بل بات مصير وطن بأكمله. فحين يوازن الطالب بين طموحه الشخصي واحتياجات سوق العمل، تتحقق له فرص النجاح، ويتحقق معه النهوض بالمجتمع. أما استمرار الفجوة بين الجامعات والسوق، فلن يعني سوى مزيد من البطالة، وطموحات معلقة، وخطوات متعثرة في طريق التنمية.