صراحة نيوز – م مدحت الخطيب
هنالك فواجع تمرّ بالبشر، تهزّ أركان الروح فلا يعود بعدها شيء كما كان…
وقصة الزير سالم مع أخيه كليب من أعمقها وأشدها إيلامًا…
كليب لم يكن مجرد أخ للزير، بل كان السند والظل والرمز، كان العزّ الممدود على قبيلة، والهيبة المرفوعة على وائل كلها… كان أكثر من إنسان، كان وطنًا صغيرًا يمشي على قدمين. وعندما سقط كليب غدرًا، لم يمت رجل واحد، بل انطفأت هيبة قبيلة بأكملها …
لم تكن صيحات النساء ولا دموع الرجال هي ما طعن قلب الزير، بل الكلمة التي قيلت كطعنة سيف في الصدر:
“كليب مات…”
هنالك فقط، جاء السؤال الذي يليق بالمأساة:
“هل مات كله؟”
سؤال لا يشبه الأسئلة، بل يشبه صرخة المستحيل.
كان الزير يريد أن يصدّق أن بعضه بقي، أن بقايا الروح لم تغادر كلها، أن هنالك شيئًا من كليب باقٍ يحرس، يقاتل، يضحك، أو حتى يهمس من بعيد…
لكن الحقيقة كانت أقسى من أن تُحتمل.
فقد مات الأخ، ومات معه زمن الزير القديم…
كان الزير شاعرًا هازلاً، ماجناً، لا يعرف من الدنيا إلا لهوها، كان “عدي بن ربيعة” مجرد زيرٍ جليس النساء. لكن حين جاء الموت، تغيّر كل شيء، كأن الفقد يخلق رجالًا من رماد، ويصوغ سيوفًا من الدموع…
من لحظة ذلك السؤال – “هل مات كله؟” – ولد الزير الجديد.
ولد من جنازة، لا من عرس.
ولد من الدمع والدم، لا من الخمر والقصيده…ولد من كفن أخيه ؟؟
لم يعد للشعر معنى عند الزير إلا إذا كان رثاءً، ولم يعد للسيف معنى إلا إذا كان ثأرًا. لم يعد يعرف للسلام طريقًا إلا إذا عاد كليب حيًّا وهذا محال، أو سقط جساس ألف ألف مرة…
ومن هذه الشرارة، اشتعلت نار لا تنطفئ: حرب البسوس.
حرب أكلت الأخضر واليابس، امتدت أربعين عامًا، لا لشيء إلا لأن الزير رفض أن يموت كليب كله..
أراد أن يظل منه شيء: اسم يتردد، دم يثأر، ذكرى لا تُدفن… حتى لو كان الثمن دماء العرب كلها…
“هل مات كله؟”
ربما لم تكن سؤالًا بقدر ما كانت أمنية يائسة…
أمنية أن يبقى من كليب ما يُبقي الزير حيًّا.
ولو كان ذلك البقاء مجرد دمعة على وجنة، أو صدى صرخة في الصحراء، أو جمر حربٍ لا تنطفئ…
في الختام أقول لم يكن السؤال الذي طرحه الزير: “هل مات كله؟”، سؤالًا عن كليب وحده…
بل هو سؤال الإنسان كلّه أمام الفقد…
فقد الأم التي تُمزق حُجب السماء والأرض ولا أتخيل ان أحد منا قادر ان يصف حجم فقدها ،فقد الأب السند ، فقد الولد، الزوجة ، الصديق…
نعم حين نفقد أحبابنا، نسأل السؤال ذاته بطرق مختلفة
هل ماتوا كلهم؟
أم بقيت منهم لمعة في الذاكرة، ضحكة في صدى الأمس، أو ظلّ في ملامحنا؟
الحقيقة أن الموت لا يقتل “كله”..
يبقى شيء، ولو خيط دخان، أو بقايا حلم، أو قصيدة لم تُكتب بعد.
يبقى أثر فينا، وفي الأرض، وفي الحكايات التي تُروى بعدنا…
ولذلك لم يكن الزير يقاتل فقط ليأخذ بثأر أخيه، بل كان يقاتل ضد فكرة النسيان…
ضد أن يُمحى اسم كليب من الذاكرة، وضد أن تُصبح القبور آخر الكلام…
كلنا، مثل الزير، نحمل هذا السؤال في أعماقنا:
هل يموت الأحباب كلّهم؟
والجواب، مهما اختلفت الحكايات، واحد:
لا.
لا يموتون كلّهم.
يبقى منهم ما يشعل دمعة، أو يضيء طريقًا، أو يبعث حياةً جديدة من رماد الموت .