ساونا العرب

4 د للقراءة
4 د للقراءة
ساونا العرب

 

 

صراحة نيوز -بقلم : م مدحت الخطيب

قبل أيام، كنت في أحد فنادق عمّان الفارهة، كل شيء كان يوحي بالترف: برك سباحة دافئة، ساونا تنفث بخارًا، جاكوزي يلتهم الجسد بالتدليك. عالمٌ مغلق يطلب منك أن تنسى كل شيء خلف الأبواب.. لكن يبدو أن فلسطين لا تُنسى حتى لو حاولوا إذابتها في حرارة البخار.

بين حلقات الجالسين، بدأت الحكاية. حديثٌ متقطع، ثم حوارٌ صاخب يعلو فوق صوت الفقاعات، جلست معهم على استحياء كدخيل يبحث عن الراحة والاستجمام المزيف، لحظات حتى بادلني أحدهم بالسؤال الأخ أردني ولا سائح، عرف كل منهم عن نفسه بعضهم من عرب 48، وبعضهم زوّار قادمون من أوروبا بوجوه عربية، ولسان ثقيل ولكن رغم ذلك لهم قلوب معلقة بالوطن الأم فلسطين…
ولأنني جديد عليهم ولكي أكون ضيفًا مرحبًا به يشاركهم الحديث ركزت على معاملة اليهود لعرب الداخل بعد السابع من أكتوبر في أول حديثي…

الوجوه كانت تحكي قبل الألسنة. قال أحدهم:
“كنا نظن أننا اندمجنا في المجتمع اليهودي.. حتى اكتشفنا أن اندماجنا كان وهماً. يوم السابع من أكتوبر أعادنا غرباء في وطنٍ مسروق”
آخر قاطع بضحكة مرة:
“الديمقراطية عندهم.. تنتهي عند أول اسم عربي”

طبعا الحديث كان طويل والخلاف دخل على الخط فيما بينهم فلكل واحد منهم رأي في كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر والى الان، حكوا عن الملاحقة، عن الطرد من الوظائف، عن الصمت الذي فُرض عليهم بالقوة، من كان يرفع علمًا صغيرًا صار متّهَمًا، ومن يغني باللهجة الفلسطينية صار مشروع إرهابي في نظر الجيران اليهود…

كان المشهد كاريكاتوريًا حدّ السخرية: أجساد عارية تتصبب عرقًا في جاكوزي فاخر، تتحدث عن شعب يُشوى تحت القصف! صمتت قليلًا، وسألت نفسي: كم من العرب يهربون من صقيع الحقيقة إلى دفء الساونا؟ كم منّا يغسل عاره بالبخار بدل أن يغسل جرحه بالكرامة؟؟؟

غزة يا سادة، لا تحترق وحدها.. نحن نحترق في صمت، لكن برائحة عطور خادعة .. وأن جاز لنا الحديث عن الخذلان فمعظم الأنظمة والشعوب العربية، قد وضعت المنشفة على وجهها كي لا ترى، وأغلقت مسامها كي لا تشم رائحة الدم… كعرب هرولوا للتطبيع دون مقابل، ثم جلسوا في المؤتمرات يتحدثون عن “السلام الشامل” بينما يتبخر السلام مع بخار الساونا الذي نعيشه اليوم في فنادق الخمس نجوم..

في النهاية وقبل ان أخرج من المشهد ، أدركت أن البخار يزول في دقائق، لكن عار الصمت يبقى عالقًا في ثيابنا مهما غسّلناه بالعطور.. أدركت حينها أن ما يجري في غزة ليس حدودًا مغلقة ولا مجرد حرب على شريط ضيّق من الأرض؛ هو زلزال امتدّ إلى العمق، إلى الوعي، إلى العلاقات بين البشر. الاحتلال الذي يتغنّى بالديمقراطية ألقى القناع وانكشف أمام عدسات الكاميرات في كل العالم؛ كشف وجهه الحقيقي أمام كل من حمل هوية عربية ولو كان يسكن في قلب تل أبيب…

في تلك الجلسة المليئة بالبخار، تلاشت رفاهية المكان، واختفى صدى الضحكات، لم يبقَ إلا حديث عن ظلمٍ واحد بوجوه متعددة.. عن غزّة التي تذبح، وعن عرب الداخل الذين يُعاقبون حتى على صمتهم عن الضفةالغربية التي أصبحت ما بين نارين وأصبح الاحتلال يعربد في شوارعها ليل نهار

خرجت من الساونا وأنا أفكر: نحن شعوب تعيش في غرفتين؛ واحدة من زجاج وأخرى من دم، وكل ما يفصل بينهما باب أو خبر عاجل.

Share This Article