ليبرالية الاقتصاد الأردني والتنمية الشمولية مركز حزب عزم للدراسات

11 د للقراءة
11 د للقراءة
ليبرالية الاقتصاد الأردني والتنمية الشمولية مركز حزب عزم للدراسات

صراحة نيوز- في العقود الأخيرة، برزت الليبرالية كإطار فكريواقتصادي يسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والسوق. اقتصاديون بارزون مثل ميلتون فريدمان وفريدريش هايكاعتبروا أن تدخل الدولة في الاقتصاد يمثل العائق الأكبرأمام النمو، وأن السوق قادر على تنظيم نفسه دون قيود،فيما تُعد الحرية الاقتصادية الضمانة الأهم للحريةالسياسية. هذه الرؤية تحولت إلى سياسات عملية عالمية،بدءًا من بريطانيا مع تاتشر، والولايات المتحدة مع ريجان،حيث طبقت سياسات تحرير الأسواق، الخصخصة، تقليصدور الدولة، والانفتاح التجاري والمالي.

قدمت الليبرالية وعدًا بتحفيز الاستثمار الأجنبي المباشر،وزيادة الكفاءة والإنتاجية، وخلق فرص العمل، وتحسينمستوى المعيشة عبر المنافسة وتخفيض الأسعار. ومع ذلك،فإن نتائج هذه السياسات لم تكن متجانسة على المستوىالعالمي، إذ حققت نجاحًا في بعض الدول، بينما عمّقتالأزمات في دول أخرى. ويعود هذا التباين إلى قوةالمؤسسات، وجودة القيادة السياسية، والتوازن بين التحريرالاقتصادي والحماية الاجتماعية، وهو ما يجعل درسالأردن أكثر تعقيدًا وخصوصية.

تجارب دول مثل تشيلي وكوريا الجنوبية وسنغافورةوإستونيا والمانيا تقدم نماذج متعددة لفهم كيفية تطبيقالنظريات الليبرالية بذكاء. في تشيلي، بعد انقلاب 1973،طبق صبية شيكاغو Chicago Boys)) الاقتصاديونإصلاحات جذرية شملت خصخصة واسعة، تحرير التجارة،وضبط التضخم، مما أدى على المدى الطويل إلى اقتصادأكثر استقرارًا، ارتفاع الناتج المحلي بنسبة 5%، وتضاعفالصادرات، خصوصًا في قطاع النحاس والزراعة، رغمالقسوة الاجتماعية في المراحل الأولى.

كوريا الجنوبية اتبعت نموذجًا مختلفًا، حيث اعتمدت الدولةمنذ الستينيات على تنمية صناعية موجهة مع استثماراتضخمة في التعليم، قبل أن تضطر خلال الأزمة الآسيويةعام 1997 إلى تبني إصلاحات ليبرالية بإشراف صندوقالنقد الدولي، شملت تحرير النظام المالي، إعادة هيكلةالبنوك والشركات، وتعزيز الشفافية. نجاح كوريا لم يكنمجرد استجابة لصندوق النقد، بل نتيجة لبناء قاعدةتعليمية وصناعية قوية مكنت الاقتصاد من التكيف معالإصلاحات دون انهيار شامل، لتصبح الدولة واحدة منأكبر الاقتصادات القادرة على المنافسة عالميًا.

سنغافورة جسّدت نموذجًا آخر، يجمع بين الانفتاحالليبرالي والتدخل الحكومي الذكي، عبر جذب الاستثمارالأجنبي، وبيئة ضريبية محفزة، واستثمار ضخم فيالتعليم والصحة والبنية التحتية. بقيادة لي كوان يو، انتقلتسنغافورة من دولة فقيرة إلى مركز مالي عالمي، مع دخلفردي تجاوز 70,000 دولار سنويًا. أما إستونيا، فقد ربطتسياساتها الليبرالية بعد الاستقلال عن الاتحادالسوفييتي عام 1991 ببرنامج رقمنة الدولة لتعزيزالشفافية، وجذب الاستثمارات التكنولوجية، وتحقيق نموديناميكي في أوروبا الشرقية، المانيا، بعد انهيار الكتلة الشيوعية، وإعادة التوحيد، عانت المانيا من أزمات مختلفة، فلجأت الى أسلوب المزج بين مبادئ السوق الحرة والعدالةالاجتماعية، فيما يُعرف بـاقتصاد السوق اليبرالي الاجتماعي، ونجحت في ذلك.

في المقابل، تظهر تجارب الأرجنتين ومصر والأردن الوجهالآخر لليبرالية حين تُطبق بطريقة مشوهة. الأرجنتين فيالتسعينيات غرقت في أزمة ديون نتيجة ضعف المؤسسات،وفساد سياسي، وغياب خطط طويلة المدى، مما أدى إلىانهيار اقتصادي مدوٍ عام 2001. مصر، رغم خصخصةبعض القطاعات، فشلت في حماية الفئات الفقيرة،واستفادت نخب محدودة فقط، مما أدى إلى اتساع الفجوةالاجتماعية وضعف الاستثمار الإنتاجي.

تشير المقارنة إلى أن عوامل النجاح في تطبيق السياسة الاقتصادية اليبرالية تشمل، وجود مؤسسات قوية وشفافة،وقيادة سياسية برؤية استراتيجية، ومكافحة الفساد،والاستثمار في رأس المال البشري، وتوازن بين السوقوالدولة. أما عوامل الفشل فتتمثل في الخصخصة المشوهة،وغياب الشفافية، والاعتماد على المساعدات أو الديون،وغياب العدالة الاجتماعية.

الأردن، منذ تبنيه البرنامج اليبرالية، أواخر الثمانينياتبعد أزمة المديونية تحت إشراف صندوق النقد الدولي والبنكالدولي، تجلت هذه الركائز في برامج الخصخصة الواسعة(خصخصة الكهرباء والاتصالات والفوسفات والبوتاس)، ورفع الدعم، وتحرير أسعار السلع والخدمات، والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، ورافقت هذه السياسات وعود بأن تؤدي إلى نمو اقتصادي أسرع، وتوفير فرص عمل، وزيادة القدرة التنافسية.

لكن النتائج جاءت محدودة، حيث ارتفع الدين العام إلىأكثر من 116% من الناتج المحلي، وبلغت البطالة أكثر من21%، مع نمو اقتصادي ضعيف لا يتجاوز 2.5%،واستثمارات أجنبية مباشرة محدودة جدًا بلغت حوالي0.4% من الناتج المحلي في 2024، بحسب البنك الدولي.

تعود أسباب التعثر في الأردن، إلى ضعف المؤسسات،وغياب استقلالية القرار الاقتصادي عن الضغوطالسياسية، وعدم تطوير قاعدة صناعية أو زراعية أوسياحية تنافسية، واعتماد الاقتصاد على المساعداتالخارجية، مما جعله هشًا أمام الأزمات الإقليمية والدولية. كما أن الخصخصة غير الشفافة حولت أصول الدولة إلىنخبة محدودة، مما أضعف المنافسة وحوّل السياسات إلىعبء على المواطن بدل أن تكون أداة للنمو.

ينطلق حزب عزم من إيمان بمبادئ الاقتصاد اليبراليالقائم على تحرير السوق، وتمكين القطاع الخاص، وتحفيزالاستثمار والمنافسة بوصفها ركائز للنمو والإنتاجية. لكنهفي الوقت ذاته يرفض ما يسمى باليبرالية الاجتماعية التيقد تضعف البنية القيمية والثقافية للمجتمع. فالحزب،باعتباره محافظًا اجتماعيًا، يرى أن النهضة الاقتصاديةمرتبطة بصون الهوية الوطنية وتعزيز الاستقرارالاجتماعي، وأن الاقتصاد الحر لا ينجح إلا إذا اقترنبسياسات تكفل تكافؤ الفرص، وإعادة بناء الطبقة (كخصوصية اردنية)، وإدماج الأطراف المهمشة فيالتنمية. ومن هنا يقترح الحزب صيغة ليبرالية اقتصاديةمنضبطة اجتماعيًا، أي تحرير السوق مع شبكة أماناجتماعي، على غرار تجارب إستونيا وسنغافورة.

يركز برنامج الحزب الاقتصادي، على الانتقال من اقتصادريعي تابع إلى اقتصاد إنتاجي، مستقل ومستدام، مبني على هوية اقتصادية واضحة المعالم، قائمة على تخطيط استراتيجي عميق مرتبط بجدول زمني محدد، مع التركيزعلى دمج السياسات الليبرالية مع رؤية استراتيجية طويلةالأمد تستثمر في الإنسان، وتطوير التعليم القائم على المهارات، وبناء قاعدة إنتاجية وخدماتية (بنية تحتية وسياحية) قوية تراعي العدالة الاجتماعية والاستقرارالسياسي.

كما يقترح خلق بيئة استثمارية مستقرة لعقد كامل، وإنشاءمناطق اقتصادية متخصصة للصناعات التكنولوجيةوالطاقة الخضراء، ومضاعفة حجم الاستثمارات الأجنبيةالمباشرة من 1.7 مليار دولار في 2024 إلى أكثر من 3 مليارات بحلول 2030.

في قطاع الطاقة، يرى الحزب التوسع في الطاقةالمتجددة، استغلال احتياطيات الغاز (إذا كانت الأرقام المعلن عنها دقيقة) والصخر الزيتي والسليكا، بهدف تغطية50% من استهلاك الكهرباء من مصادر متجددة خلالخمس سنوات، وتقليل الاعتماد على الاستيراد المكلف، حيثبلغت فاتورة الطاقة حوالي 4 مليار دينار في 2024.

في الزراعة، يشجع البرنامج التحول نحو الزراعة الذكيةوالري الحديث والزراعة المائية، مع إنشاء صندوق وطنيللأمن الغذائي لدعم الإنتاج المحلي وتمويل مشاريعالشباب الزراعية، وربط الأردن بالأسواق الأوروبية والعربية والاسيوية لتسويق المنتجات.

قطاع السياحة، الذي ينظر الحزب اليه كأحد أعمدةالاقتصاد الوطني، نظراً لما يمتلكه الأردن من ثروة سياحية ضخمة، قادرة على خلق نقلة نوعية في الاقتصاد. ومن هنايرى الحزب ضرورة تطوير البنية التحتية السياحية، تحسينشبكات النقل والمطارات والفنادق، وتشجيع الاستثمار فيالمنتجعات البيئية والصحية، وإعادة ابتكار الهويةالتسويقية للأردن، بما يشمل السياحة التقليدية (تشكل 70 من مجمل السياحة العالمية)، والعلاجية والمؤتمراتوالمغامرات وغيرها، مع تمكين المجتمعات المحلية وتوفيرفرص عمل مباشرة للشباب. ويهدف البرنامج إلى مضاعفةالدخل السياحي ليصل إلى 20 مليار دينار بحلول 2035،ويجعل القطاع مساهمًا رئيسيًا في الناتج المحليالإجمالي، والمشغل الرئيسي للعمالة الوطنية.

الشباب والتشغيل يحظيان بأولوية قصوى، عبر إنشاءحاضنات أعمال وطنية، وربط التعليم الجامعي والمهنيباحتياجات سوق العمل، وتطوير برنامج المسارات المهنية والتقدم الوظيفي، وتوفير قروض ميسرة بضمانات حكوميةلتمويل مشاريع ريادية صغيرة ومتوسطة، بدلاً من الاعتمادعلى استثمارات كبرى محدودة التأثير.

إقليميًا، يهدف الحزب إلى استثمار موقع الأردنالجيوسياسي لتعزيز الشراكات في مشاريع الطاقة والبنيةالتحتية، والمشاركة في الممر الاقتصادي من الهند إلىأوروبا مرورًا بدول الخليج، وتنويع أسواق الصادرات لتقليلالاعتماد على أسواق محدودة.

وعلى الرغم من الطموحات الكبيرة، يقر الحزب بالتحديات،من ضغوط سياسية خارجية، ومقاومة النخب المستفيدة،وضعف الثقة الشعبية بالمؤسسات نتيجة تراكم التجاربالفاشلة. لذلك يقترح إنشاء مجلس اقتصادي أعلى مستقللمتابعة التنفيذ، واعتماد مؤشرات أداء واضحة، وإلزامالحكومة بتقارير فصلية للبرلمان لضمان الشفافية والمساءلة.

حزب عزم يرى أن مستقبل الأردن ليس في رفضالليبرالية أو تقليدها ميكانيكيًا، بل في إعادة صياغتها بمايتناسب مع خصوصية البلاد، في نموذج ليبرالية ذكية“،بتحرير السوق مع تعزيز العدالة الاجتماعية، والاستثمارفي الإنسان، وتمكين الشباب، ودعم القطاعات الإنتاجيةذات القيمة المضافة العالية.

التجارب العالمية تظهر أن النجاح لا يأتي من الوصفاتالجاهزة، بل من الإدارة الرشيدة، ومؤسسات قوية، وحوكمةفعالة، واستثمار في رأس المال البشري. الأردن، وفق حزبعزم، يملك فرصة فريدة لتحويل اليبرالية من أداة أزمات إلىأداة نهضة وطنية، حيث يقاس النجاح ليس بمعدلات النموأو حجم الاستثمارات، بل بقدرة المواطن على حياة كريمةوعادلة، وبإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، ووضع الأردن فيمكانته الطبيعية كمركز إقليمي للخدمات اللوجستية والطاقةالمتجددة والتكنولوجيا الرقمية.

إنها معركة طويلة، لكن الأردن يملك فرصة حقيقية لإعادة صياغة نموذج اقتصادي مستدام، يوازن بين السوق والدولة، بين النمو والعدالة الاجتماعية، وبين الطموح الوطني والاستقرار الإقليمي، ليصبح نموذجًا يحتذى به في المنطقة.

Share This Article