صراحة نيوز- بقلم / مالك العثامنة
في تداعيات ما بعد السابع من أكتوبر، هنالك أيضا ما قبل الدوحة وما بعدها، فتلك الضربة الإسرائيلية التي طالت قلب الخليج لم تكن حدثا عابرا، بل نقطة تحول كشفت بوضوح أن نظرية الأمن الخليجي المنفصل لم تعد قائمة، فالفكرة القديمة التي سادت لعقد كامل تقريبا، ومفادها أن التهديد الوحيد يأتي من إيران، وأن إسرائيل يمكن أن تكون حليفا ضمنيا أو شريكا في توازنات إقليمية، كلها تهاوت في لحظة.
ما بعد الدوحة لم يعد ممكنا تجاهل الحقيقة، العدوان الإسرائيلي وتمدد اليمين المتطرف في تل أبيب لا يتوقف عند حدود غزة أو الضفة الغربية، بل يحمل في جوهره رؤية توسعية ترى أن السيطرة بالقوة هي الوسيلة الوحيدة لبناء ما يسميه اليمين الإسرائيلي إسرائيل الكبرى، وهذه الرؤية التي تضرب عرض الحائط بحل الدولتين وتستند إلى أيديولوجيا دينية متجذرة، جعلت العقل السياسي الخليجي والسعودي تحديدا يعيد قراءة الخريطة من جديد.
الأردن كان مبكرا في التنبه لهذه المعادلة، فالدبلوماسية الأردنية وبخط مواز غير معلن سبق ضربة الدوحة بقليل، تحركت عبر قنوات خلفية شارك فيها سياسيون مخضرمون، وبإشراف مباشر من الملك، لإيصال فكرة جوهرية مفادها أن الأمن الخليجي مرتبط عضويا بما يجري في فلسطين وسورية ولبنان، وأن تجاهل الخطر الإسرائيلي لم يعد ترفا سياسيا، وقد كان ذلك جهدا استباقيا صامتا لم يعلن عنه، لكنه ينسجم اليوم تماما مع ما صار حقيقة معلنة في خطابات الرياض وعواصم الخليج، وزيارة أمير قطر إلى الأردن يوم الأربعاء لم تكن إلا تجليا للتواصل على قواعد جديدة في الدبلوماسية الأردنية والخليجية والعربية.
تقديرات الموقف التي صدرت عن مراكز بحثية كبرى، من معهد واشنطن إلى مراكز خليجية وإقليمية، عكست هذه القراءة الجديدة، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن المزاج الشعبي السعودي انقلب بالكامل ضد أي صلة مع إسرائيل، وأن النخب السياسية في الرياض لم تعد ترى التطبيع هدية مجانية، بل مشروطا بتغيرات جوهرية، عنوانها التأسيسي قيام دولة فلسطينية وضمانات سياسية وأمنية واضحة ومعالجة شاملة للملفات الإقليمية.
المواقف الرسمية السعودية والخليجية بعد الدوحة كانت انعكاسا لهذا الوعي الجديد، بيانات الإدانة لم تعد بروتوكولية، بل محملة برسائل سياسية قوية، تؤكد أن أمن الخليج ليس منفصلا عن أمن غزة، وأن أي محاولة إسرائيلية لتوسيع نفوذها ستواجه بموقف خليجي متماسك، وقد قالها ولي العهد السعودي في قمة الرياض الإسلامية العربية بوضوح، لا استقرار إقليميا من دون وقف العدوان واحترام سيادة الدول، ولا عملية سلام من دون دولة فلسطينية.
هذا التحول في العقل السياسي الخليجي يفتح الباب أمام معادلة جديدة تشق طريقها اليوم، فالسعودية بثقلها ومكانتها تدرك أن الخطر الإسرائيلي قد لا يكون أقل تهديدا من الخطر الإيراني، بل قد يكون أكثر استعجالا لفرض وقائع جيوسياسية قسرية، والأردن بخبرته الطويلة وبعمقه التاريخي في قراءة الصراع، يجد نفسه في موقع الشريك الطبيعي لتوضيح هذه الحقائق وبلورتها في خطاب سياسي متزن يجمع بين الحذر والوضوح.
اليوم ومع كل التحولات يمكن القول إن العقل السياسي الخليجي لم يعد يقرأ إسرائيل كشريك ممكن في توازن القوى، بل كعامل تهديد وجودي محتمل، وهذا الوعي هو بداية مسار جديد يحتاج إلى تراكم وإلى استثمار دبلوماسي حقيقي، يبني أساسا واقعيا نحو أمن مشترك يضمن الحقوق الفلسطينية ويوقف التمدد الإسرائيلي، أو فوضى إقليمية لا أحد في الخليج بمنأى عنها.