صراحة نيوز- بقلم د . عبدالله سرور الزعبي
في ثلاثينيات القرن الماضي، ابتكر جوزيف غوبلز، وزير الدعاية الألماني، واحدة من أخطر أدوات تشكيل الرأي العام، نظرية حصر الخيارات. الفكرة الجوهرية هي تضييق مساحة التفكير الحر عند الناس عبر تقديم خيارات مصطنعة، مما يدفعهم إلى اتخاذ القرار الذي خطط له صانع الرسالة مسبقا (تقليص البدائل، وتلميع خيار محدد، وتشويه ما عداه، للوصول إلى قرار محسوم لصالح صانع القرار)، وهم يعتقدون أنهم يختارون بحرية، حيث العقل البشري يكره الحيرة، وعندما تقل البدائل يقل الجهد الذهني لاتخاذ القرار، والخوف من المجهول. فالبشر عند مواجهة الأزمات، يبحثون عن خيارات واضحة ومأمونة، حتى لو كانت موجهة، والوهم بالحرية، ومنح خيارين أو ثلاثة فقط، مما يعطي شعورا وهميا بأنك صاحب القرار، بينما أنت محصور ضمن إطار مرسوم.
غوبلز، كان يقول “أفضل وسيلة للتحكم بالناس، أن تجعلهم يختارون من بين خيارات تحددها أنت” وكان يقدم قضايا سياسية واجتماعية على شكل معادلات مبسطة، إما ألمانيا أو الفوضى الشيوعية، وإما دعم النظام الألماني أو خيانة الوطن. بهذه الطريقة، لم يعد الجمهور يناقش سياسات الحزب، بل صار النقاش محصورا في خيارات ضيقة، يفضي معظمها إلى النتيجة التي يريدها.
هذه النظرية لم تكن مجرد أداة إعلامية، بل كانت سلاحا إستراتيجيا في تشكيل وعي الشعوب، وتحويل مساحات الحوار العام إلى ممر ضيق يقود إلى النتيجة التي يريدها صانع القرار.
اليوم، وبعد نحو قرن من الزمن، نكتشف أن هذه الفلسفة تطورت وارتدت ثوب السياسة المعاصرة لتصبح أداة مركزية في إدارة الحملات الانتخابية، وصناعة القرار السياسي، وإعادة صياغة ورسم خرائط التحالفات الجيوسياسية.
في الحملات الانتخابية، تتجلى النظرية من خلال تصميم استطلاعات الرأي بشكل موجه، وحصر المناظرات بين مرشحين أو حزبين فقط، وتضخيم المخاوف من الطرف الآخر، والتحكم في أجندة النقاش لقضايا الرأي العام لتهميش البدائل.
يظهر هذا بوضوح في الولايات المتحدة حيث يهيمن الحزبان الرئيسيان، وفي بعض دول العالم الثالث، ومنها بعض الدول العربية، حيث تُختزل الخيارات بين الاستقرار والفوضى، ما يضيق مساحة الاختيار الحر.
في بريطانيا، فيما يخص البريكس، تم حصر نقاش الخروج من الاتحاد الأوروبي في ثنائية خروج كامل أو بقاء كامل، دون طرح بدائل وسطية أكثر تعقيدًا، مثل إعادة التفاوض على شروط العضوية.
هذا النهج يلتقي أيضا مع ما يسميه السياسي شانتال، بـسياسة الاستقطاب، حيث يتم تقسيم المشهد العام إلى معسكرين متقابلين، بحيث يُدفع الجمهور لاختيار أحدهما، حتى وإن كان هناك بدائل أكثر تنوعا وعدالة.
في التحالفات الدولية، يظهر تطبيق هذه النظرية بوضوح في السياسة العالمية، حيث أصبحت أداة مركزية في رسم خرائط النفوذ وإعادة ترتيب التوازنات الجيوسياسية. القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا، تتعمد أحيانًا صياغة الأزمات الدولية بحيث تُختزل أمام الدول الأخرى في خيارين، ما يجبرها على الاصطفاف ضمن أحد المعسكرات.
في الصراع الأميركي الصيني، فالخيار بين الانضمام إلى النظام الصيني أو المظلة الأميركية. في الحرب الروسية الأوكرانية، طُرحت المسألة أمام أوروبا على شكل إما دعم أوكرانيا بلا شروط أو القبول بتمدد روسي يهدد أمن القارة، متجاهلين إمكانية وجود حلول وسط مثل إعادة التفاوض على الترتيبات الأمنية أو تبني نموذج حياد مرن.
هذه الآلية، حين تطبق على نطاق عالمي، تعيد صياغة الخرائط والتحالفات؛ إذ تدفع الدول إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وتسرّع في تشكل كتل سياسية واقتصادية مغلقة، وتتقلص المساحات الرمادية. النتيجة عالم أكثر استقطابا، ويزداد الضغط على الدول الصغيرة والمتوسطة لاختيار طرف واحد، مما يحد من قدرتها على اتباع سياسات مستقلة تحافظ على سيادتها ومصالحها الاستراتيجية.
بعض الدول في العالم الثالث، تطرح على الشعوب خياران لا ثالث لهما، النظام القائم أو الفوضى، وهي صيغة تضغط على المخاوف الأمنية وتدفع الناس لاختيار الاستقرار، حتى لو كان على حساب الإصلاح.
الشرق الأوسط، الأكثر تعقيدا على صعيد الأزمات السياسية والأمنية، والاقتصادية، حيث تتشابك مصالح إقليمية ودولية في نسيج مشحون بالتوترات. في إدارة هذه الأزمات، تتجلى بوضوح أساليب حصر الخيارات لضبط مسارات الحلول والسيطرة على نتائجها.
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مثال ساطع لنظرية غوبلز، حيث السياسة الإسرائيلية، تُظهر تطبيقا ممنهجاً لحصر الخيارات. فغالبًا ما تُقدَّم للفلسطينيين معادلة ضيقة، إما القبول بتسوية سياسية وفق الشروط الإسرائيلية، والتي تتضمن اعترافًا بدولة إسرائيل، وتنازلات جوهرية في أراضي الضفة، والقدس واللاجئين، أو مواجهة عزلة سياسية واقتصادية، وتشديد الحصار، وتصعيد أمني مستمر.
بهذه الطريقة، يتم تغييب الخيارات البديلة مثل رعاية دولية متعددة الأطراف للمفاوضات، أو حلول انتقالية تعزز الثقة، أو مسارات اقتصادية مشتركة غير مشروطة. كذلك تُستخدم هذه الاستراتيجية على المستوى الدولي، إذ تُصوَّر القضية للعالم وكأنها خيار بين دعم إسرائيل بوصفها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، أو الانحياز لقوى الإرهاب، وهو إطار يختزل الواقع المعقد إلى ثنائية حادة.
على الرغم من ارتباط هذه النظرية بالأنظمة الشمولية، إلا أننا نجد أسلوب حصر الخيارات في سياسة الدول تقوم على إما أن تدعم الحكومة أو تدعم الفوضى، وفي الإعلام، تقوم على تقليل التعقيد عبر طرح رواية واحدة مقابل رواية مشوهة.
الأردن، ليس استثناء” من السياق الإقليمي، ففي الحالة الأردنية، يمكن أن نرى مظاهر حصر الخيارات في بعض الخطابات السياسية والإعلامية، خاصة عند طرح ملفات حساسة مثل الإصلاح السياسي أو الأزمة الاقتصادية. أحيانا يتم تقديم القضية على شكل، إما الحفاظ على الوضع القائم مع وعود إصلاح تدريجية، وفي الاقتصاد، تفرض أحيانًا خيارات التقشف مقابل الاستقرار، أو رفضها والمخاطرة بالأزمات الاجتماعية، وبالتالي الأمن الوطني. هذا الأسلوب، وإن كان يهدف لضبط الاستقرار، إلا أنه يحد من الحوار الوطني، وقدرة المجتمع على التفكير في حلول مبتكرة أو بدائل غير تقليدية.
هذا الإطار الضيق قد يحد من قدرة الرأي العام على التفكير في حلول أخرى أكثر ابتكارا، لكنه يضمن لأصحاب الطروحات من النخب أو غيرها، بقاء القرار في حدود يمكن التنبؤ بها.
هذا الأسلوب يعرقل بناء مؤسسات شفافة، ويزيد من عمق الأزمات، عبر تقييد الخيارات، مشكلا مخاطر إستراتيجية، كإجهاض الإبداع السياسي والحلول المبتكرة، وتعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية، وتآكل الثقة في العملية السياسية بسبب انكشاف محدودية الخيارات.
مع تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، ستصبح قدرة الفاعلين على تصميم خيارات محسوبة وموجهة بدقة أكبر، مما يجعل المواطنين أكثر عرضة للتوجيه ضمن أطر مسبقة، ليس فقط في السياسة، بل في الاقتصاد، وإدارة الموارد، والبيئة وقضايا مجتمعية أخرى. التحدي المستقبلي، يجب أن يكون في توسيع فضاء الاختيارات وكسر الإطارات الثنائية، لضمان قرارات أكثر وعيًا وتنوعًا.
كيف نكسر الحلقة؟ إذا ما أردنا تحيد نظرية غوبلز، لا بد من توسيع إطار النقاش العام، عبر طرح بدائل غير مطروحة رسميًا، وتمكين المجتمع من طرح السؤال عن الغائب، لماذا لم يتم طرح خيار ثالث أو رابع؟ ومن المستفيد من إخفائه؟ والعمل على تعزيز التعليم النقدي والإعلام المستقل لرفع قدرة الناس على كشف أدوات البروباغندا.
الخلاف القادم، حول من يتحكم في صياغة خيارات التفكير والقرار.
من بروباغندا غوبلز إلى إدارة الأزمات الحديثة، ومراكز القرار العالمي اليوم، تثبت نظرية حصر الخيارات أن السيطرة على إطار النقاش أقوى من السيطرة على القرار نفسه. الديمقراطية الحقيقية والعدالة السياسية تبدأ حين تتسع دائرة البدائل، ويُكسر الحاجز الذهني، الذي يحصر العقول قبل أن يحصر السياسات.