عزم للدراسات الاستراتيجية : الاعتراف بدولة فلسطين وواقع التطبيق

11 د للقراءة
11 د للقراءة
عزم للدراسات الاستراتيجية : الاعتراف بدولة فلسطين وواقع التطبيق

صراحة نيوز- مركز حزب عزم للدراسات الاستراتيجية

اليوم وفي هذه اللحظةٍ من تاريخ المنطقة الحافل بالحداث، يعود الملف الفلسطيني إلى الواجهة الدولية من جديد (بعد ان اعتقد الجميع بانه تم نسيانه في خضم حرائق المنطقة المشتعلة)، لكن هذه المرة عبر الاعتراف المتنامي بدولة فلسطين. هذا الاعتراف، يظهر وكأنه نهاية فصلٍ طويلٍ من النضال والانتظار والمرارة. الا انه في ذات الوقت يبعث بسؤالٌ يزن ثقل التاريخ والألم، ما هي طبيعة هذه الدولة؟ وهل ستكون موجودة فعليًا على الأرض، أم اعترافًا رمزيًا يُضاف إلى قائمة الأوجاع؟ وما الذي تغيّر بعد ثمانين عاماً من صراع متداخِل الأبعاد (تاريخي، وديني، وجغرافي وسياسي) بوجود قوى دولية كبرى تراهن على ثبات تحالفاتها أو تغييرها؟
ان الاعتراف بدولةٍ لا يعني بالضرورة تحويل الخرائط بين ليلة وضحاها. لكنها تعتبر لحظةٌ رمزيةٌ وماديةٌ في آنٍ معاً، رمزية لأنها تمنح الفلسطينيين حق الوجود السياسي المعترف به دوليًا، ومادية لأنها تفتح طرقًا قانونية ودبلوماسية تُستخدم في المحافل الدولية لطلب الحقوق والمساءلة. هذه اللحظة هي ثمرة مأساةٍ طويلة وتضحياتٍ متواصلة من الشعب الفلسطيني والشقيق الأردني، الذي دفع ثمناً باهظاً حفاظًا على حقوق المقدسات وتماسك الهوية، وصولًا إلى، او ربما ضدّ، موازين القوى الدولية والمحلية.
لا يمكن فهم الاعتراف بالدولة الفلسطينية اليوم دون العودة إلى جذور تقسيم الشرق الأوسط منذ اتفاقية سايكس بيكو 1916، التي قسّمت المنطقة بين النفوذ البريطاني والفرنسي، وأجهضت حلم الدولة العربية الكبرى (التي هدفت لتحرير العرب، وانشاء دولة عربية موحدة) الذي وعدت به القوى العظمى الشريف الحسين بن علي مقابل اعلان الثورة على حكم الدولة العثمانية. لكن الوعد تبخر، وحلّت مكانه مشاريع استعمارية، وبدأت معها ملامح مأساة فلسطين تتشكل. حيث تمكّنت لاحقًا الحركة الصهيونية من تأسيس موطئ قدمٍ سياسي وعسكري في فلسطين. وهنا يكمن جوهر المأساة، وعود التحرر التي لم تُنفذ، وتواطؤ دولي مكّن مشروعًا احتلاليا من الترسخ على حساب حق تقرير المصير العربي.
في هذا السياق، تحركت الحركة الصهيونية وفق خطط مدروسة، تتوجت بإعلان قيام إسرائيل عام 1948، وهي لحظة شكّلت تحولًا جذريًا في بنية المنطقة الجيوسياسية. ومنذ ذلك الحين، أعلنت إسرائيل قيامها، بينما تُرك الشعب الفلسطيني مشرّدًا بين مخيمات اللجوء وغياهب الاحتلال. ومنذ ذلك الحين، صدرت عشرات القرارات الدولية، لكن إسرائيل واصلت الممانعة، واعتمدت استراتيجيات أمنية وعسكرية قائمة على مبدأ الحرب الدائمة لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وبدعم أمريكي مباشر، لتحوّل بذلك، الحق الفلسطيني إلى رهينة للمساومات السياسية.
لم تكن الاستراتيجيات الإسرائيلية مجرد ردود فعل على الأحداث، بل خططًا ممنهجة. في العقود الأخيرة، سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لترسيخ عقيدة خاصة به، تقوم على رفض إقامة دولة فلسطينية واعتبار السيطرة على كامل الأرض جزءًا من الحق التاريخي لليهود. وقد صرّح في أكثر من مناسبة بأن هدفه أن يُسجل اسمه في التاريخ على غرار الملوك القدماء ودافيد بن غوريون مؤسس إسرائيل، ليُعتبر زعيمًا حاميًا للهوية اليهودية، ومانعًا لقيام دولة فلسطينية مستقلة، والإبقاء على الفلسطينيين في حالة إدارة نزاع بدلًا من حله. هذه العقيدة السياسية جعلت أي مسار تفاوضي حقيقي شبه مستحيل في قيادة نتيناهو، وزادت من عمق الهوة بين الاعتراف الدولي والواقع الميداني.
وقد وصف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مأساة الفلسطينيين قائلاً “المأساة ليست في النكبة فقط، بل في النسيان، أن يتحول الفلسطيني إلى لاجئ أبدي، وأن يُعامل حق العودة كحلمٍ طوباوي”. هذا الاقتباس يعكس جوهر الاعتراف بالدولة، ليس مجرد تصحيح سياسي، بل محاولة لإنقاذ الذاكرة والحقوق من التبديد.
منذ بداية المأساة الفلسطينية، لم يتوقف الأردن يومًا عن اعتبار القضية الفلسطينية قضيته الأولى. فمن حماية المقدسات في القدس، إلى استقبال ملايين اللاجئين، وصولًا إلى تقديم آلاف الشهداء دفاعًا عن الأرض والحق، ظلّ الأردن ركيزة أساسية في معادلة الصراع بقيادته الهاشمية، المستمرة، كسندٍ ديني ورمزٍ سياسي في كافة سياسات المنطقة، من المغفور له الملك المؤسس عبد الله الأول والذي استشهد في القدس، والمغفور له الملك الحسين بن طلال، الذي قال “القدس أمانة في أعناقنا، ما حييت لن أفرّط فيها، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”. هذه الكلمات لم تكن شعارًا عابرًا بل التزامًا تُرجم إلى مواقف سياسية وعسكرية وتضحيات جسيمة دفعها الأردنيون دمًا وعرقًا عبر العقود.
أما الملك عبد الله الثاني فقد شدّد مرارًا في المحافل الدولية على أن “حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام العادل والدائم، ودون قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لن يكون هناك استقرار في المنطقة”. هذه الرؤية الهاشمية، جعلت من الوصاية على المقدسات جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية الأردنية، وربطت الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس بمجرّد إعلان، بل بمشروع استراتيجي لضمان استقرار الإقليم.
إن الاعتراف المتجدد بالدولة الفلسطينية اليوم ليس حدثًا منفصلًا، بل يُفترض أن يكون تنفيذًا لمجموعة قرارات دولية ممتدة منذ قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947، قرار التقسيم، ثم قرارات مجلس الأمن وأهمها رقم 242 (1967) وقرار 338 (1973)، وغيرها، والتي أكدت جميعها على حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة. لكن هذه القرارات بقيت حبرًا على ورق بفعل الممانعة الإسرائيلية والدعم الأمريكي غير المشروط، ما جعل الاعتراف اليوم اختبارًا جديدًا لقدرة المجتمع الدولي على فرض التزاماته.
لا يمكن فهم الدولة المُعترَف بها اليوم، دون إعادة قراءة المشروع السياسي الذي تراكم منذ تقسيمات منتصف القرن العشرين، والاحتلال، والتهجير، والانتفاضات، واتفاقات أوسلو وما تلاها من فصول. الاعتراف الدولي اليوم سواء كان من عشرات الدول أو أكثر، يأتي بعد تراكم سياسي ودبلوماسي، كان الفضل فيه للأردن بقيادة الملك، وبدأت نتائجه تظهر على وقع أحداثٍ كبرى عمقت شعور العالم بضرورة الحل سياسي، الذي طالما دعا اليه الأردن، واخرها يوم أمس في خطاب الملك امام الأمم المتحدة قائلاً “متى سنجد حلا للصراع العربي الفلسطيني؟ متى سأتحدث امامكم عن الفرص والازدهار والامكانات في منطقتي، لا عن المعاناة والدمار؟
لكن التجربة التاريخية تُظهر أن مواقف بعض القوى العظمى يمكن أن تصون أو تُقوض مسارات الاعتراف والتنفيذ. الولايات المتحدة استخدمت حق النقض (الفيتو) مرارًا لحماية مواقف إسرائيل في مجلس الأمن. كما منعت الوفد الفلسطيني من دخول الولايات المتحدة الامريكية لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحضور الاجتماع الدولي الذي دعت اليه فرنسا والسعودية. إسرائيل تنتهج السياسة نفسها، منذ بن غوريون، وما زال امانا تصرّيح شامير “سوف نستمر في بناء المستوطنات مئة عام إذا لزم الأمر، فلن يكون هناك دولة فلسطينية”، وهو بكل وضوح يكشف طبيعة الممانعة. هذه العبارة تكشّف عقبة الاعتراف الفعلي، ليس في الأوراق الدولية، بل في الميدان السياسي والواقع الاستيطاني.
اليوم نتيناهو، وهو الأكثر تطرفاً، يعمل على تدمير غزة بالكامل، وتفريغ الضفة الغربية، ويكثف من عمليات الاغتيال وتحيد القيادات الفلسطينية تباعاً. وهذا واضح في كلمات الملك يوم أمس مخاطباً المجتمع الدولي “على المجتمع الدولي ان يتوقف عن التمسك بالاعتقاد الواهم بان هذه الحكومة الإسرائيلية شريك راغب في السلام”. كما سبق للأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش ان قال معلقًا على الوضع في غزة “غزة أصبحت مقبرة للأطفال، وإنكار حقوق الفلسطينيين المشروعة في دولة مستقلة لن يجلب الأمن لأحد”. هذه الكلمات، الصادرة عن أعلى سلطة أممية، تضع الاعتراف في سياقه الأخلاقي والإنساني الأوسع، ليس مجرد قرار سياسي، بل التزام بالعدالة الدولية المتأخرة منذ عام 1948.
وفي هذا السياق، يصرّح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية بوريل خلال العدوان الأخير على غزة قائلاً “لا يمكن أن نغضّ الطرف عن المأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون، ولا يمكن أن يكون الأمن الإسرائيلي مبررًا دائمًا لإنكار حق الفلسطينيين في دولة”.
ان حزب عزم يتطلع لكيلا يكون الاعتراف من قبل مجموعة من الدول العالمية بالدولة الفلسطينية، مجرد عبارةٍ في بيان أو ورقة أعطيت اسمًا على قوائم الأمم المتحدة فحسب. بل يتطلع لان يكون الاعتراف بالدولة قابل للتطبيق، ولتحقيق ذلك، فانه يحتاج إلى عدد من الأركان التي يجب ان تتوفر على ارض الواقع، حدود واضحة أو وجود قابلية للتفاوض عليها، وعاصمة تضم مؤسسات تنفيذية قادرة على حماية المواطنين وتقديم الخدمات، وآليات أمنية وقضائية تتلقّى قبولًا دوليًا وإقليميًا. ان غياب هذه الأركان يعني بقاء الاعتراف بالدولة كرمزية. وكما قال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان “لا يمكن للعالم أن يطالب شعبًا بالسلام بينما ينكر عليه حقه في الدولة”، والمقصود بالدولة هنا دولة كاملة الاركان. هذه المقولة تعكس مأزق الاعتراف الرمزي، أن يتحوّل إلى وعد بلا أدوات تنفيذ.
في جميع الأحوال، ان الاعتراف الحالي بدولة فلسطين، يعتبر خطوة ضرورية، لكنه بلا خطة تنفيذية ملزمة سيبقى مجرّد بيان سياسي لدولة رمزية، تملك حقوقًا في المحافل الدولية لكنها تفتقر إلى سيادة فعلية على الأرض. لكن قد تؤدي الاعترافات المتزايدة إلى تعزيز هذه المؤسسات (بتمويل دولي ودبلوماسية متزامنة).
لكي لا يبقى هذا الاعتراف، حبراً على ورق، فانه تبرز الحاجة إلى خريطة استراتيجية واضحة، تشارك فيها الدول الكبرى والدول العربية والاسلامية، مع دور أردني محوري، لتنفيذ خارطة طريق دولية ملزمة تنبثق من الأمم المتحدة، تحدد الحدود الانتقالية وآليات بناء مؤسسات الدولة، وضمانات أمنية دولية ترافقها قوة فلسطينية مدرّبة، لتبديد الذرائع الأمنية التي تعرقل قيام الدولة، ودور أوروبي متقدّم يتجاوز الاعتراف الرمزي إلى ضغوط سياسية واقتصادية ملموسة، ومبادرة عربية بقيادة الأردن، تضمن حماية المقدسات وتدعم إعادة الإعمار وتنسق المواقف الدبلوماسية، وقوة دولية مؤقتة تشرف على وقف إطلاق النار، وتؤمن وصول المساعدات، و آليات عدالة انتقالية لتوثيق الانتهاكات وتقديم التعويضات، وبما يحفظ الحقوق ويخفف الاحتقان، وحل عملي لقضية اللاجئين عبر صندوق دولي للتعويض والتوطين الطوعي أو العودة حيث أمكن، وبرنامج تنمية اقتصادية يربط الاعتراف بتعهدات تمويلية دولية، وخطوات بناء ثقة كإطلاق الأسرى وفتح المعابر تحت الرقابة الدولية، وآليات ضغط دبلوماسي على المعرقلين، عبر مزيج من الحوافز والعقوبات المشروطة.
ان حزب عزم يرى بان الاعتراف الدولي بفلسطين اليوم، هو لحظة سياسية فارقة، وفرصة ذهبية لتصحيح خطأ تاريخي بدأ منذ سايكس بيكو، وتكرّس منذ 1948، وهو اختبار لمدى صدق المجتمع الدولي وقدرته على تنفيذ التزاماته.
الأردن، بحكم موقعه وتاريخه ووصايته على المقدسات، مؤهل لقيادة مبادرة عربية ودولية لتحويل الاعتراف إلى واقع. فالقضية الفلسطينية ليست مجرد ملف سياسي بالنسبة للأردن، بل جوهر العدالة في الشرق الأوسط، ومفتاح استقرار المنطقة بأسرها.

Share This Article