صراحة نيوز- د.عبدالله سرور الزعبي
يعيش الأردن منذ سنوات على وقع محاولات إصلاح سياسي متدرج، هدفه إعادة الاعتبار للعمل الحزبي وترسيخ الديمقراطية. وقد مثّل قانون الانتخابات خطوة محورية، إذ فتح المجال أمام الأحزاب لتكون جزءاً أصيلاً من البرلمان، بعد عقود هيمنت فيها الاعتبارات الفردية والعشائرية على تشكيله. هذه الخطوة لم تكن سهلة، لكنها وضعت حجر الأساس لتحول تدريجي في تشكيل الحياة النيابية.
حتى الآن، ما تزال التجربة الحزبية في البرلمان في بداياتها، لكنها تحمل مؤشرات مهمة. ان دخول كتل حزبية تحت القبة أعاد شيئاً من لغة البرامج والخطط، والمساءلة الجماعية، وفتح الباب أمام نقاش جماعي يتجاوز المصالح الفردية. إلا أن الواقع يشير إلى تحديات كبيرة (ضعف الخبرة التشريعية، واستمرار تأثير البُنى، وغياب ثقافة حزبية راسخة). ومع ذلك، فالفكرة باتت مطروحة للتطوير، ويُنظر إليها باعتبارها نقطة تحول لمشروع إصلاح سياسي طويل المدى.
اليوم، وبعد أن بدأت التجربة الحزبية تشق طريقها، يطرح سؤال جديد، هل يمكن أن تنتقل هذه التجربة إلى المجالس البلدية؟ وهل الكوتا الحزبية يمكن أن تكون جسراً بين السياسة والشارع؟
الأمر ليس بهذه البساطة، فالبرلمان مجلس تشريعي ورقابي، والمجالس البلدية مؤسسات خدماتية محلية (تُعنى بتنظيم المدن، وتعبيد الشوارع، وإدارة النفايات، وغيرها). ان الفارق الجوهري بين الدورين يفرض معادلة معقدة، كيف يمكن إدخال العمل الحزبي إلى مؤسسة خدماتية دون أن تتحول إلى ساحة صراع سياسي يعيق تقديم الخدمات؟
رغم ان التجربة الحزبية في مجلس النواب لم تنضج بعد، إلا أن تخصيص مقاعد حزبية في المجالس البلدية، عبر إدخال كوتا حزبية، قد يشكل خطوة إصلاحية جريئة. من جهة، يمكن أن يمنح الأحزاب فرصة لتوسيع قواعدها الشعبية، والانتقال من النقاشات السياسية إلى تلمس حاجات الناس اليومية. وهذا بحد ذاته قد يشكل جسراً بين المواطن والعمل الحزبي، ويساعد على تعزيز ثقة المواطن بالأحزاب. من جهة أخرى، فإن إدخال الأحزاب إلى مجالس بلدية ذات طابع خدمي قد يضعف البعد العملي لها، إذا ما تحولت إلى ساحات صراع سياسي بدلاً من أن تكون منصات لتحسين الخدمات.
من الناحية القانونية، البلديات في الأردن تُعتبر هيئات مستقلة، وتُدار وفق قانون الإدارة المحلية الذي يحدد طبيعتها، باعتبارها ذات وظيفة خدمية. إن إدخال الكوتا الحزبية يتطلب تعديلات تشريعية، وربما اجتهاداً دستورياً لضمان الانسجام بين البعد الخدمي للبلديات والبعد السياسي للأحزاب. على الرغم من أن الدستور الأردني لا يمنع مشاركة الأحزاب في الانتخابات البلدية، لكنه لم يمنحها وضعاً خاصاً كما هو في البرلمان، وبالتالي، أي توجه نحو تخصيص مقاعد حزبية يحتاج إلى إرادة سياسية وتشريعية يضمن التوازن بين الاستقلال الإداري للبلديات وبين طموحات الإصلاح السياسي.
في نفس الوقت، لا يمكن تجاهل أن معظم البلديات الأردنية تعاني اليوم من أزمات مالية وإدارية خانقة، وغياب التخطيط، واعتماد مفرط على الدعم الحكومي. في هذا الواقع، يُطرح سؤال، هل الأحزاب قادرة على إنقاذ البلديات؟ إذا دخلت المجالس البلدية عبر كوتا، وأن تقدم قيمة مضافة؟ نجاحها سيكون مرهوناً بقدرتها على تقديم كوادر إدارية محترفة وبرامج عملية، وليس مجرد شعارات وخطابات انتخابية.
إن التجارب الدولية، قد تكون مفيدة لفهم أوسع لدور الأحزاب في إدارة المجالس البلدية، في ألمانيا، العديد من البلديات تدار وفق نظام حزبي، حيث تشكل الأحزاب القوائم الانتخابية المحلية. أن الثقافة الديمقراطية الراسخة ساعدت في جعل البلديات مؤسسات فاعلة قادرة على الموازنة بين الخدمات والعمل السياسي.
فرنسا، البلديات تُدار إلى حد كبير عبر الأحزاب، التجربة الفرنسية ناجحة بسبب قدرة الأحزاب على الجمع بين الطرح السياسي والإدارة العملية للخدمات، لوجود جهاز إداري قوي يساعد على التنفيذ.
الهند، اعتمدت نظام الكوتا في المجالس المحلية، هذه التجربة ساعدت في رفع نسبة المشاركة، وأدخلت القوى السياسية إلى قلب العمل البلدي، وإن واجهت تحديات تتعلق بالصراعات الحزبية.
جنوب أفريقيا، المجالس المحلية تُنتخب وفقاً لنظام التمثيل النسبي الكامل، ما يضمن حضور الأحزاب بمختلف أحجامها. هذا جعل البلديات ساحات حقيقية للتنافس السياسي، لكن أحياناً على حساب الكفاءة الإدارية.
تركيا، رغم الطبيعة المركزية للنظام السياسي، إلا أن الانتخابات البلدية أصبحت مجالاً لصعود أحزاب المعارضة. التجربة أظهرت أن البلديات يمكن أن تكون ساحات حقيقية للمنافسة الحزبية وتقديم بدائل سياسية، خصوصاً حين تلامس الخدمات اليومية للناس.
البرازيل، تعتمد على نظام حزبي واسع التمثيل في البلديات، إلا أن المشكلة في كثرة الأحزاب أدت إلى تحالفات هشة، غيبت الكفاءة أحياناً، مما عرقل العمل البلدي.
إندونيسيا، المجالس البلدية تُنتخب جزئياً عبر الأحزاب، مما لعب دوراً مهماً في ترسيخ الديمقراطية. لكن التجربة كشفت عن مشاكل تتعلق بالفساد والمحسوبية، ما أضعف ثقة المواطنين.
المغرب، جُرّبت الكوتا الحزبية في المجالس البلدية لتعزيز التمثيل السياسي، لكن النتائج كانت متباينة بسبب الفجوة بين الخطاب السياسي والواقع الخدمي.
تونس، بعد الثورة، جُرّبت الانتخابات البلدية بنظام القوائم الحزبية، واعطت التجربة دفعة قوية للعمل السياسي المحلي، لكنها واجهت تحديات بسبب غياب الخبرة الإدارية لدى بعض الممثلين الحزبيين.
ان التجارب العالمية تظهر لنا، ان الدول ذات المؤسسات الراسخة، مثل ألمانيا، وفرنسا، أثبتت نجاح التمثيل الحزبي في البلديات لأنها تملك ثقافة سياسية وإدارية قوية، اما الدول النامية واجهت تحديات في ربط السياسة بالخدمات بسبب ضعف الإدارة وغياب الشفافية والمسألة.
إن إدخال الكوتا الحزبية في البلديات الأردنية قد يشكل خطوة إصلاحية جديدة، لكنها محفوفة بالمخاطر. إذا استطاعت الأحزاب أن تبرهن على قدرتها في تقديم برامج خدمية حقيقية واضحة وقابلة للتنفيذ، وهذا يتطلب إلى إعادة تعريف دورها محلياً، لا أن تكتفي في الشعارات السياسية، وتأهيل كوادرها لتصبح قادرة على الإدارة بفعالية، وتفعيل آليات الرقابة على الأداء، وتغير في الثقافة المجتمعية (ما لم يقتنع المواطن أن الحزب يمكن أن يحسن في الخدمات التي يحتاجها، فلن يمنحه صوته في الانتخابات البلدية).
إذا ما أُحسن إدماج الأحزاب في العمل البلدي، فقد تكون النتيجة إيجابية، أحزاب قريبة من المواطن، تنقل همومه اليومية إلى برامج عملية، وتعيد الثقة بالعمل العام. لكن إذا جرى إدخالها دون تأهيل حقيقي ودون تعديل قانوني واضح يحدد دورها وصلاحياتها، فإن النتيجة قد تصبح نسخة مشوهة لتجارب برلمانية، وربما أكثر تعقيداً. من التشريع إلى الخدمات، ومن التمثيل النيابي إلى المجالس البلدية، تبدو التجربة الحزبية في الأردن وكأنها تقف على مفترق طرق. صحيح أن قانون الانتخاب أعاد الاعتبار للأحزاب في البرلمان، لكن نقل التجربة إلى البلديات يحتاج إلى مراجعة عميقة للواقع الإداري والخدمي. فالمجالس المحلية ليست مختبراً للتجارب السياسية بقدر ما هي مؤسسات تحتاج إلى كفاءة وإدارة رشيدة. وإذا نجحت الأحزاب في المزج بين العمل السياسي والقدرة على تقديم خدمات ملموسة، فإن ذلك قد يشكل نقطة تحول حقيقية في بناء عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع. أما إذا بقيت الشعارات فارغة، فإن الكوتا الحزبية ستتحول إلى عبء إضافي على الدولة، وربما تزيد من تعقيداتها.