صراحة نيوز- مركز حزب عزم للدراسات الاستراتيجية
يقف الأردن اليوم عند مفترق طرق حاسم، حيث تتزاحم على أرضه وعقله الجمعي صور متناقضة بين الخطر القادم الذي تحمله العواصف الإقليمية من أكثر من اتجاه، وبين الداخل الموعود بالقادم أجمل الذي يدافع عنه الملك برؤية استراتيجية وحكمة نادرة، ويمكن أن يتحقق إذا ما أحسن استثمار الفرص المتاحة. إن قراءة المشهد الأردني لا تقتصر على متابعة تفاصيل السياسة اليومية أو التوترات الإقليمية، بل تتطلب الغوص في عمق البنية الداخلية، وفهم التوازن الدقيق بين تحديات الداخل وضغوط الخارج، وبين الفرص التي يمكن أن تتحول إلى قوة دفع وبين المخاطر التي قد تنقلب إلى أزمات خانقة.
هذه الازدواجية ليست مجرد عنوان صحفي، بل حقيقة يلمسها الأردني في يومياته، وتدركها الدولة في حساباتها الاستراتيجية.
منذ عقود لم يكن الأردن يومًا بعيدًا عن ارتدادات العواصف الإقليمية، ولم يعرف الأردن استقرارًا كاملاً في جواره، من فلسطين إلى العراق، ومن سوريا إلى الخليج. موقع الأردن الجغرافي جعله على تماس مباشر مع كل الأزمات الكبرى. لكنه اليوم يواجه بيئة أمنية أكثر تعقيدًا. التوتر المتصاعد بين إسرائيل ودول المنطقة، يضع المملكة في دائرة التهديد غير المباشر. التهديدات لا تقتصر على الطائرات المسيّرة أو الصواريخ العابرة، بل تمتد إلى تهديدات غير تقليدية، تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود الشمالية، وتغلغل شبكات إقليمية تسعى إلى زعزعة الاستقرار الداخلي، واحتمالات التصعيد في الضفة الغربية بعد الاعتراف الدولي المتزايد في دولة فلسطين، وضغوط إقليمية تحاول استغلال موقع الأردن كحلقة ضعيفة أو كساحة صراع، في كل هذا يجد الأردن نفسه محاطًا ببيئة أمنية بالغة الخطورة.
المعادلة صعبة، حيث إسرائيل تمثل معضلة مزدوجة، فمن جهة، ترتبط بعلاقات مع الأردن بموجب معاهدة وادي عربة التي تعيش اليوم اختبارًا صعبًا، فإسرائيل لا تنفك عن ممارسة الضغوط في ملف المياه، سواء عبر التحكم في تدفق نهر الأردن، أو عبر اتفاقيات مثل الماء مقابل الطاقة. فضلًا عن ذلك، فإن التهديد الديموغرافي المتمثل في أي سيناريو لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن ما زال حاضرًا في الأذهان. ومن جهة أخرى، تتصرف حكومة اليمين الإسرائيلي بطريقة تهدد بإشعال المنطقة بأكملها، بما في ذلك الأردن، مهددة بذلك استقرار المنطقة.
فيما إيران لا تخفي رغبتها في الإبقاء على بعض النفوذ في دول المنطقة، وتسعى باي ثمن في جعل الساحة الأردنية إحدى نقاط الاشتباك المحتملة، سواء عبر الضغط السياسي أو عبر أدوات غير تقليدية على الحدود، لجعل الأردن جزءًا من معادلاتها. وسط هذه البيئة، يصبح الحفاظ على استقرار الداخل تحديًا مضاعفًا.
غير أن الخطر الأكبر ليس فقط ما يحيط بالأردن من الخارج، بل ما يعتمل في الداخل. أزمة الثقة بين المواطن والدولة تتسع، بفعل سياسات اقتصادية أثقلت كاهل الناس من دون أن تقدم حلولًا ملموسة. الدين العام يزداد، معدلات البطالة تقترب من مستويات مقلقة، والطبقة الوسطى التي طالما شكّلت توازن المجتمع وصمام الأمان للنظام الاجتماعي اخذت في الاختفاء، والتعليم يعاني من تراجع متسارع في جودته، والخدمات العامة تعاني من ضعف مزمن، فيما الحكومات المتعاقبة تكتفي بطرح برامج إصلاحية، الا ان التنفيذ غالبًا ما يتعثر عند أول اختبار، أمام البيروقراطية الثقيلة أو ضعف الإرادة السياسية أو مصالح الفئات النافذة.
هذا الواقع يولد شعور عام بأن الأزمات تراوح مكانها، فيما الحلول الحقيقية مؤجلة أو مستبدلة بخطابات رسمية لا تقنع الشارع، مما يجعلأزمة الثقة تتنامى بين المواطن والدولة، فالأردني يسمع وعودًا بالتحسين، لكنه لا يرى أثرًا ملموسًا في حياته اليومية.
من بين كل الأزمات، يبرز تراجع التعليم كأحد أخطر التهديدات طويلة الأمد. فضعف المناهج، اكتظاظ الصفوف، وهجرة الكفاءات التعليمية، وصول البعض الى مواقع قيادية في المؤسسات الاكاديمية، يجب ان لا يكونوا في الجسم الأكاديمي، كلها تجعل الأجيال الجديدة أقل قدرة على المنافسة في سوق عالمي سريع التغير. وإذا كان الاقتصاد بحاجة إلى كفاءات مؤهلة قادر على الابتكار والإنتاج، فإن استمرار هذا التراجع يهدد بتحويل القوة الديموغرافية للأردن إلى عبء ثقيل بدل أن تكون فرصة للنهوض.
كما ان الأمن المائي يشكل تهديدًا آخر، إذ يعيش الأردن تحت خط الفقر المائي منذ عقود. تصريحات وزير المياه الأخيرة عن احتساب، هواء العدادات، كجزء من استهلاك المواطن لم تكن مجرد فضيحة إدارية، بل انعكاسًا لأزمة أعمق في إدارة الموارد المائية، والمشاريع الكبرى مهددة بكلف مالية تتجاوز قدرة الدولة. كل ذلك يضع الأمن المائي، ومن ورائه الأمن الغذائي على المحك.
وعلى الرغم من كل ذلك، فان ملف المياه، رغم سوداويته، فإن وجود مشاريع ضخمة مثل الناقل الوطني قد يشكل فرصة إذا ما أُدير بكفاءة وشفافية، وجرى الاستفادة من تجارب دول نجحت في تجاوز أزماتها المائية، سيشكل فرصة ما زالت قائمة.
يزيد الصورة قتامة أن آلية اختيار القيادات في مؤسسات الدولة لا تزال أسيرة حلقات ضيقة من العلاقات الشخصية والولاءات، أكثر من كونها مبنية على الكفاءة والقدرة على تقديم حلول حقيقية. الوجوه ذاتها تتنقل من موقع إلى آخر، تنقل معها الأزمات بدل أن تقدم حلولًا، مكتفية بتصريحات متكررة وإنجازات ورقية لا وجود لها على أرض الواقع.
هذه الحلقة المفرغة لا تستهلك ثقة المواطن بالدولة فحسب، بل تضاعف أيضًا من حجم المخاطر الداخلية، إذ يصبح غياب الحلول الفعلية عبئًا يوازي حجم التهديدات الخارجية وربما يفوقها.
في مواجهة هذه التحديات، تنقسم تصريحات السياسيين بين خطاب مطمئن يؤكد أن الأردن محصن من كل الأخطار، وخطاب آخر لا يتوقف عن التحذير من المؤامرات، ومشاريع تستهدف الأردن. فعلى سبيل المثال، تصريحات طاهر المصري عن أن “الأردن يعيش أزمة حكم قبل أن يعيش أزمة حكومة“ تلخص الإحساس بأن الخطر داخلي قبل أن يكون خارجيًا، بينما يرى مروان المعشر أن غياب الإصلاح الحقيقي يهدد بزيادة فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع.
هذا التباين يخلق حالة من الارتباك في الرأي العام: هل نحن على أبواب خطر داهم أم أن الأمور تحت السيطرة؟ كلا الخطابين قاصر، الأول ينفي الواقع، والثاني يزرع اليأس. المطلوب هو خطاب واقعي يوازن بين الاعتراف بالمخاطر، وحجم التحديات لكنه يفتح الباب أمام تقديم حلول عملية.
وسط هذا المشهد، يبرز موقف الملك عبد الله الثاني باعتباره الأكثر اتزانًا، ففي أكثر من مناسبة، شدد الملك على أن “الأردن قوي بشعبه، صامد في وجه التحديات“، فهو يؤكد أن الأردن لن يكون ساحة لحروب الآخرين ولن يسمح بتهديد أمنه، لكنه في الوقت نفسه يدفع نحو استثمار موقع الأردن الجغرافي في مشاريع إقليمية كبرى للطاقة والمياه والنقل. هذه المشاريع لا تدر عوائد اقتصادية فقط، بل تمنح الأردن مكانة تفاوضية أعلى في محيط إقليمي مضطرب، لكنه في الوقت ذاته حذر من خطورة التهاون في الإصلاحات، ومن محاولات فرض حلول إقليمية على حساب الأردن.
الملك يدرك أن اللحظة حرجة، فالخطر الاقتصادي والاجتماعي قد يتحول إلى تهديد للاستقرار السياسي، لكنه في المقابل يراهن على وعي الأردنيين وقدرتهم على الصمود. لهذا تأتي دعواته المتكررة إلى تجديد العقد الاجتماعي، كمحاولة لخلق توازن بين الشرعية التاريخية للنظام والشرعية الشعبية المطلوبة اليوم.
المواطن الأردني يعيش بين قلق مشروع وأمل متجدد. قلق من غلاء الأسعار والبطالة وتراجع الخدمات، وأمل بأن بلده، الذي صمد أمام عواصف كبرى، من حرب الخليج إلى الربيع العربي من قبل، قادر على تجاوز أزماته الحالية بقيادته وشعبه. هذا المزاج المزدوج يعكس معادلة الأردن كلها، بلد صغير بموارد محدودة، لكنه يمتلك رصيدًا من الصمود والخبرة يجعله قادرًا على تحويل التحديات إلى فرص، شرط أن تتوفر الإرادة السياسية الصادقة والقدرة على الإصلاح الفعلي.
ما يطلبه المواطن بسيط في جوهره، عدالة اجتماعية، وشفافية في إدارة الموارد، وفرص عمل تحفظ كرامته، وحياة سياسية يشعر فيها أن صوته مسموع. بين هذا وذاك، يبقى السؤال معلقًان هل تستطيع الدولة أن تلبي هذه المطالب في ظل التحديات، أم يبقى الأمل مجرد شعار؟
الاردن، لا يفتقر إلى عناصر القوة، شباب متعلم، وموقع استراتيجي، واستقرار نسبي يجعله شريكًا دوليًا مهمًا. لكن تحويل هذه العناصر إلى إنجازات ملموسة يتطلب تغييرًا في النهج، ومحاربة فعلية للفساد، وإصلاح في آليات اختيار القيادات، وتطوير بيئة استثمارية وتعليمية قادرة على مواكبة المستقبل.
في نهاية المطاف، يرى حزب عزم ان الأردن بلد المفارقات، فالخطر قائم بلا شك، لكن القادم الأجمل ممكن أيضًا، ويبقى السؤال مفتوحًا، هل يستسلم الأردن لدوامة الخوف والانتظار، أم ينطلق نحو القادم الأجمل بقرارات جريئة وإصلاحات حقيقية؟
وهنا تتجلى رؤية حزب عزم، حيث ينظر الى ان المسألة ليست قدرًا محتومًا، بل هي خيار سياسي واجتماعي، ويتطلب وجود خطة استراتيجية للتنمية الشمولية (ليس بخطط التنمية العشوائية او المحلية فقط) يتم فيها تحديد الهوية الاقتصادية للدولة الأردنية. مثل هذا الامر يتطلب دراسات استراتيجية عميقة، ترافقها خطط تنفيذية واضحة، وفق جدول زمني، لوقف ارتفاع المديونية، والتخفيف من البطالة، وإعادة بناء الطبقة الوسطى، كما كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي الضامنة لاستقرار المجتمع، وهي الاستراتيجية الشاملة، التي يتبناها حزب عزم ويعمل عليها بكافة المختصين من كوادره، وسيقدمها بعد تحديد الهوية الاقتصادية الأردنية، والتي تضمن النمو الاقتصادي وتحقق اهداف الدولة.
في نفس الوقت يرى حزب عزم، ان استمرار التعامل مع الأزمات بعقلية التسكين والإنكار، والتدوير لإصحاب الشعارات، من أصحاب الفكر النظري، ولم نرى نتائجها على ارض الواقع، فإن الخطر عندها سيتحول إلى واقع. أما إذا تحركت الدولة بجرأة نحو الإصلاح العميق وفق برامج مدروسة وخطط محكمة، ومحاسبة المقصرين، وأصحاب المشاريع الغير واضحة المعالم، فإن القادم الأجمل لن يكون مجرد حلم بل واقع يعيشه الأردنيون.
في النهاية، يبقى الأردن معلقًا بين هذين العنوانين “الخطر قادم” و“القادم أجمل“، أيهما سيغلب؟ فان حزب عزم يرى بان هذا يتوقف على قدرة الدولة على مواجهة التحديات بجرأة، وعلى وعي المواطن بضرورة الصبر والصمود، وعلى توازن القيادة بين التحذير والأمل. وبين كل ذلك، يظل الأردن، كما كان دائمًا، قصة دولة صغيرة تواجه تحديات كبيرة، لكنّها تعرف كيف تحوّل الخطر إلى فرصة، والأزمة إلى بداية جديدة.
حزب عزم مقتنعاً، بان الشعب الأردني الذي صمد أمام كل الأزمات السابقة يستحق أن يرى الإصلاح واقعًا لا وعدًا، وأن يعيش الأمل حقيقة لا شعارًا.