صراحة نيوز – بقلم -محمود الدباس – أبو الليث..
يبدو أننا لا نفهم!.. ولكي لا يلتبس الأمر على أحد.. أقصد نحن المواطنين البسطاء.. الموظفين العاديين.. لا أصحاب القرار.. ولا صانعي السياسات.. نحن الذين ما زلنا نعتقد.. أن التحليل المنطقي لأي حدث.. يجب أن يُفضي إلى نتائج واضحة.. وأن النتائج تقتضي إجراءات.. إما لتعظيم الإنجاز.. أو لتصويب الخطأ..
لكن يبدو أن هذه القاعدة.. لا تنطبق على الحكومات.. فنحن حين نشير إلى الخلل.. ونقدمه مدعما بالشواهد والوثائق.. ننتظر منهم تحليلا شفافا.. وتحقيقا قويا.. وقرارات جريئة.. فنفاجأ بأن القرارات لا تأتي.. أو تأتي من النوع الذي يطالبنا بمزيد من الصبر والتحمل.. كأن الصبر سلعة وطنية متجددة لا تنضب..
خذ مثلا صرخة الملايين من غلاء الأسعار.. وارتفاع فاتورة المياه.. التي نحاسب فيها على الهواء أكثر مما نحاسب على الماء.. وزيادة التضخم.. وتضاعف أعداد المتعطلين عن العمل.. كل هذا يراه الناس بأعينهم.. كما يشاهدون المحال التجارية تغلق.. والمستثمرين يهربون.. والآخرين يخشون المغامرة في بيئة طاردة..
خذ أيضا.. فساد مشاريع البنية التحتية.. ومسرحية تدوير المناصب.. وتعيينات بلا منافسة حقيقية.. ثم اعمل لنفسك كاسة شاي بالنعنع.. واستمع إلى الحكومة وهي تتغنى بالشفافية.. بالنزاهة.. بالعدالة.. بالضرب بيد من حديد على الفاسدين.. وكأنها تظن أن الناس قد فقدوا حواسهم الخمس..
لحظة.. خذ هذه الحكاية الطريفة.. التي لا يعرفها إلا الأردنيون.. مؤسسة إعلامية.. تشتري منذ سنوات نصوصا درامية.. وهي تعلم يقينا.. أنها لن تتحول إلى أعمال فنية.. لأن ترجمة واحد منها لعمل فني.. تحتاج إلى ملايين الدنانير غير المتاحة.. لكن الصفقة تمت.. طبعا وللإنصاف هكذا صفقة ليست تنفيعاً إطلاقاً.. ثم تُرفع الشعارات عن حسن الإدارة.. وترشيد الإنفاق..
الحكومة تقول إنها تعمل بصمت ودون ضجيج.. وإن المشاريع العملاقة.. هي من ستقودنا نحو القمم الاقتصادية.. ونسبة النمو حوالي 2.5%.. ونحن.. الملايين من الناس.. والآلاف من الكتّاب.. والمحللين.. وعلماء الاقتصاد.. لا نرى إلا الأسفل.. ونسمع شعارات العلو.. ولا نلمس سلما نصعد عليه..
هنا أقف.. ليس دقيقة صمت.. بل ساعة كاملة.. أراجع نفسي.. أقول ربما نحن لا نفهم.. ربما نحن فعلا متأخرون عن وعي الحكومة.. ربما ما نراه فسادا هو في الحقيقة شطارة.. وما نلمسه من تضخم هو في الحقيقة نمو.. وما ندفعه ثمنا للهواء في فاتورة المياه هو مجرد تدريب لنا على التنفس الاقتصادي.. وعدم محاسبة المسؤول الفاسد.. هي قمة النزاهة والعدالة وقوة الإدارة..
يبدو أن المطلوب منّا.. أن نتوقف عن السؤال.. وأن نقتنع.. بأن ما نراه ونلمسه ليس هو الحقيقة.. بل الحقيقة هي ما تشرحه لنا الحكومة في بيان صحفي.. وأن نصدق.. أن الفساد مجرد وهم.. وأن الوظائف لا تتم إلا بالتعيين العادل.. وأن المستثمرين يتدافعون على أبواب البلد..
لكن ما يغيب عن أصحاب القرار.. أن الناس لم يعودوا ينسون.. وأن سياسة التناسي.. وإماتة القضايا.. لم تعد تنفع.. فالذاكرة صارت إلكترونية.. والتوثيق صار يوميا.. والمراقبة صارت علنية.. وما يظنونه ضباباً لتغطية الأخطاء.. صار مادة للسخرية السوداء.. التي يتداولها الجميع..
نحن لا نفهم كما تقولون.. لكننا نرى.. ونراقب.. ونضحك.. والضحك هذه المرة.. ليس علامة فرح.. بل هو سخرية مرّة.. قد تكون أخطر من الغضب نفسه..
والسؤال الذي اتمنى أن أجد جواباً عليه.. هل نحن فعلا لا نفهم.. أم أنهم يظنون أننا لا نفهم؟!..