صراحة نيوز- المهندس مدحت الخطيب
اتركوهم لأنّهم لا يملكون ترف القرار الهين، ولا رفاهية النقاش الطويل.
اتركوهم لأنّ كل ساعة لديهم وزنٌ من ركام، وكل قرار فيها مقياسٌ للحياة والموت.
اتركوهم لأنّهم أهل الأرض ــ من تحت أقدامهم تخرج قصصٌ لا تُقرَأ إلا بالدموع.
هم الذين جرّعهم العالم مرارة النجاة اليومية، ومَن اختبر الموت على مائدة الإفطار أو داخل غرفةٍ انهارت ليلًا يعرف جيدًا معنى الكلفة. لا نسمعهم كثرًا لأنّ الصوت هناك يُبتلع أحيانًا بصوت الانفجار. لا نراهم جالسين على كراسي الحوار لأنه لم تُبقَ لهم كراسي كثيرة ليجلسوا عليها؛ بقيت لهم شظايا البيوت وذكرياتٍ تفتّتت مع الحيطان.
إن قبلوا، فليس لأنّهم سذجٌ أو خانعون، بل لأنّهم من شهدوا ما لا يُطيق سمعهُ بشرٌ كثيرون: أدركوا الحدّ الذي يقبل فيه المرء بأي ثمنٍ كان ــ بعدما تتردد الأصوات وتتكاثر الفواجع، يصبح للسلام طعمٌ مختلف. فهم عرفوا أن المقاييس ليست هنا نظريةً تُناقش في مقاهي العالم، بل هي حلىٌ يُوزعُ على رقعةٍ من الأرض تُنزَع منها الحياة كل يوم.
وإن رفضوا، فليس لأنهم يريدون التحدي من فراغ، إنما لأنّهم أعلمٌ منا بما سيأتي: من خبرةٍ مُرَّةٍ مع آلةٍ أرهقَتْهم منذ عامين، بلا سندٍ حقيقي، بلا حماية إنسانية تذكر. عندما يعيد التاريخ نفسه بطرقٍ منسَّقةٍ ومُبرمَجة، يصبح الرفض فعلَ وعيٍ بائسٍ لكنّه صادق. هم الذين فقدوا القدرة على ثقةٍ بطيئة؛ فالثقة عندهم تحتاج لثمنٍ قلّما يملكونه: ضمان الحياة.
فدعونا عناء التفسير الطويل. دعونا عناء الحكم من مقعدٍ بعيد.
اتركوهم لأنّ قرارهم ليس واجهةً لنزوة كلامية عندنا؛ هو اختيارٌ تُفرَضُ عليهُ كل لحظةٍ ظروفٌ لا يعرفها إلا من عاشها. اتركوا التراكمات والافتراضات؛ لا تفرضوا عليهم قوالبنا الجاهزة عن الشجاعة أو الاستسلام. فالشجاعة هنا ليست في الصراخ فحسب، ولا الاستسلام في الصمت المطلق؛ إنهما طيفان من ألمٍ واحد.
ولمن يهمهم الخير: لا تكنوا قساةً على الذين لا يملكون أن يختاروا كما نختار. لا تلتقطوا صورَ المآسِي لتسوّقوا آراءً. لا تصنفوا الاختيارات بمجرد رغبةٍ في إثبات ذات. رافقوهم إن أردتم، بإنسانيةٍ حقيقية: طعامٌ، دواءٌ، مأوىٌ، صوتٌ يوثق حقهم، ضغطٌ لوقف آلةٍ لا ترحم. لا تُبدّلوا واجب العون بتسليطٍ إعلاميٍّ يُجهد القلوب أكثر.
هؤلاء أناسٌ قبل أن يكونوا عنوانًا لقضية. لهم أسماء، وجلودٌ تشتعل بردًا وحُرًّا. لهم أمهاتٌ تبكي كما تبكي كل أمّ في العالم، وآباءٌ يخرُّون تحت وطأة الحزن كما يخرُّ غيرهم. لهم أطفالٌ لا يملكون طفولة تُذكر. إن أردنا أن نكون إنسانيين فعلاً، فبدل أن نُعلّمهم كيف يقبلون أو يرفضون، لنسأل أنفسنا أولًا: ماذا فعلنا لنخفف عنهم؟ وما العمل الحقيقي الذي سنقوم به لتمنع المزيد من الموت والدمار؟
اتركوهم حرّين في قرارهم، لكن لا تتركوهم وحيدين في معركتهم.
اتركوهم لأنّ استقلال قرارهم مصان، ولأنّ معناهم لا يُستلَب عبر فرضٍ من بعيد.
وساعدوهم لأنّ المساعدة لا تُقاس بكلماتٍ متوهجةٍ على الشاشات، بل بأفعالٍ صغيرةٍ وثابتةٍ تنقذ إنسانًا واحدًا اليوم؛ قد تكون هي الفارق بين بكرةٍ وآخر.
في النهاية، عليهم وعلينا أن نتذكّر: ليس نحن مَن يقرر عنهم حياتهم أو موتهم. نحن فقط ــ إن كنا بشرًا ــ مسؤولون أن نخفف عنهم قدر المستطاع، وأن نصغي دون أن نحكم، وأن نُرضي ضميرنا بعملٍ لا بكلامٍ فقط. اتركوهم، لكن لا تتركوا إنسانيتكم معهم.