لماذا يُشيد صندوق النقد بنمو اقتصادي لا يشعُر به المُواطن الأردني؟

9 د للقراءة
9 د للقراءة
لماذا يُشيد صندوق النقد بنمو اقتصادي لا يشعُر به المُواطن الأردني؟

صراحة نيوز-بقلم -د. غـازي إبراهيـم العـسّاف

أسـتاذ الاقتصـاد – الجامعـة الأردنيـة

في ظلّ كل هذه الإشادة الرسميّة بالأداء الاقتصادي الأردني وبخاصّة بعد انتهاء مرحلة المراجعة الرابعة لبرنامج صندوق النقد الدولي والتي أجريت مؤخراً، يبرُز هنا سؤالاً محورياً ومُهماً حول الطبيعة الحقيقية للنمو الاقتصادي في الأردن، جوهر هذا السؤال هو: هل فعلياً نشهد انتعاشاً اقتصادياً مُستداماً يُعطي إشارات واعدة لمُستقبلٍ أفضل؟ أم أنّنا أمام نمو اقتصادي هش يُخفي خلفه تحديات هيكلية عميقة ستكون عائقاً في ترجمة كل هذا النمو الى مستوى حياة أفضل للمُواطن الأردني؟
خلال الزيارة الأخيرة لفريق صندوق النقد للأردن وما سبقها من أرقام رسمية أشارت الى أنّ الاقتصاد الأردني يشهد نموّاً وصل إلى حوالي 2.7٪ في النصف الأول من عام 2025 مقارنة بنمو قدره 2.5٪ للعام الكامل 2024، إذ اعتبر صندوق النقد الدولي ذلك دليلاً على مرونة الاقتصاد الأردني وقُدرته على الصّمود رغم كل التحديات الإقليمية والعالمية خلال الفترات الماضية والحالية. فبحسب بيانات البنك الدولي يُقدر حجم الاقتصاد الأردني بنحو 53.35 مليار دولار في عام 2024 مقارنة بحوالي 51 مليار دولار في عام 2023. إلا أنّ خلف هذه الأرقام الإيجابية ظاهرياً، تكمن مسألة أكثر تعقيداً تتطلب تحليلاً دقيقاً لمصادر وتركيبة هذا النمو ومدى استدامته، سنُحاول من خلال هذه القراءة التحليلية المُختصرة تسليط الضوء على أبرز جوانب القوة والضعف في تركيبة النمو الاقتصادي للأردن.
لا شك بأنّ القطاع الصناعي كان وسيبقى المُحرّك الأساسي للنمو الاقتصادي في الأردن، حيث سجل نمواً كبيراً في الربع الثاني من العام 2025 وصل الى حوالي 4.8٪ وساهم بحوالي 39٪ من النمو الحاصل في الاقتصاد الأردني فيما يساهم قطاع الصناعات التحويلية وحده بحوالي 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال نفس الفترة، إلا أنّ هذا القطاع لازال يعتمد بشكل كبير في نموه على الصناعات الاستخراجية والصناعات الخفيفة ذات القيمة المضافة المنخفضة، فأغلب الصادرات الصناعية تتركز في الفوسفات والبوتاس والأسمدة والحلي والمجوهرات وصناعة الملابس، وهي في أغلبها بالرغم من أنها صناعات كثيفة العمل لكنها ذات قيمة مضافة متواضعة ومُعرضة بشدة للمنافسة العالمية وعُرضة نتيجة لذلك للتقلبات.
وفي مُفارقة لافتة، جاء القطاع الزراعي بين أكثر القطاعات الاقتصادية نمواً خلال النصف الأول من عام 2025، حيث سجل نمواً استثنائياً وصل الى حوالي 8.6٪ خلال هذه الفترة، وهو ما فاق أغلب التوقعات حول أداء هذا القطاع نتيجة القيود الهيكلية والوضع المائي الصعب الذي تشهده الأردن. وبالرغم من هذا النمو الكبير في القطاع الزراعي، إلا إنه ما زال يُساهم بنسب متواضعة جداً في الاقتصاد الأردني ككل، حيث تراجعت حصته الى حوالي 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي ويُساهم فقط في توظيف حوالي 3.5٪ من القوى العاملة في الأردن، إضافة الى مساهمته بحوالي 15٪ من إجمالي قيمة الصادرات خلال العام 2024. كما وتُشير الأرقام الى أنّ الجزء الأكبر من ربحية قطاع الزراعة تتركز في إنتاج الفواكه والخضراوات في وادي الأردن والتي تُصدّر بشكل كبير الى دول الخليج العربي، بينما تبقى زراعة الحبوب مُتقلّبة بشدة نتيجة عدم انتظام وتقلب المواسم المطرية. إنّ هذا الوضع الحالي لقطاع الزراعة يعني أنّ هناك حاجة للاستثمار في حلول مستدامة طويلة المدى في الزراعة وتقنياتها لترفع مستوى الكفاءة الاقتصادية والإنتاجية لهذا القطاع.
في المقابل، ساهمت القطاعات الخدمية وعلى رأسها قطاعات الخدمات المالية والتأمين والخدمات العقارية في النمو الاقتصادي بشكل كبير خلال النصف الأول من عام 2025، اذ وصلت هذه النسبة الى حوالي 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ليكون بذلك من أكبر القطاعات المساهمة في النمو خلال ذات الفترة. بالإضافة الى ذلك ساهم قطاع الخدمات الحكومية أيضاً بحوالي 12٪، الأمر الذي يعني أنّ هناك تركّزاً واضحاً في الاعتماد الكبير على القطاعات الخدمية في الاقتصاد الأردني وهو مرّة أخرى أحد أهم التشوّهات الهيكلية التي يُعاني منها الاقتصاد الأردني خلال فترات طويلة، إذ يُشير ذلك الى نمط اقتصادي ريعي أكثر منه إنتاجي، فالعديد من القطاعات الخدمية كقطاع العقارات وبالرغم من مساهمتها الكبيرة في الناتج المحلي، إلا أنها لا تخلق فُرص عمل كافية أو نوعية، إضافة الى أنها بطبيعتها تميل الى تركيز الثروة في أيدي شرائح محدودة في المجتمع الأردني. وهذا بلا شك يتطلب إعادة توازن لصالح القطاعات الإنتاجية التي تخلق فرص عمل مُستدامة وتُساهم في بناء قاعدة اقتصادية أكثر صلابة وتكيُّف في مواجهة التحديات والصدمات الإقليمية والعالمية.
أما فيما يتعلق بالقطاع السياحي فقد كان أحد أكثر القطاعات الخدمية تأثُّراً بالأوضاع الإقليمية التي تشهدها المنطقة، إذ يُمكن اعتباره الضحية الأكبر نتيجة تراجع أدائه بشكل كبير خلال العامين الماضيين، إلا أن الأرقام الأخيرة أشارت الى أن هذا القطاع بدأ يدخل في مرحلة التعافي بتسجيله نمو قدره 7.5٪ في قيمة الدخل السياحي خلال النصف الأول من عام 2025 والذي جاء بشكل أساسي نتيجة زيادة أعداد السياح بحوالي 15٪ في الفترة نفسها، مع زيادة ملحوظة في اعداد السياح الآسويين القادمين للمملكة. وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن الإشكالية الأعمق تكمُن في التركيبة الهيكلية للقطاع السياحي في الأردن والتي تتمثل في الاعتماد المُفرط على نمط محدود من السياحة والتي تتركّز في اغلبها في سياحة الآثار والسياحة الدينية فقط، فبالرغم من المحاولات الحكومية المتعددة في تنويع هذه الأنماط كسياحة المغامرات والسياحة الطبية المتقدمة والسياحة البيئية، إلا أنّ هناك خطوات إضافية مطلوبة تشمل استثمارات ضخمة في التنويع والجودة والتسويق لتلبية معايير السياحة العالمية في مثل هذ الأنماط السياحية المطلوبة اليوم.
همسة في أُذن الفريق الاقتصاديّ للحكومة الأردنية
إنّ الإشكالية الأكثر خطورة ليست في معدل النمو الاقتصادي المتواضع بل في تركيبته وتشوهاته الهيكلية، فقد أشار صندوق النقد الدولي ذاته في عدد من تقاريره حول الاقتصاد الأردني بأنّ تركيبة النمو الاقتصادي في الأردن تشهد تغييرات ملحوظة، أبرزها بأنّ الصادرات والطلب الأجنبي على السلع الأردنية هي ما تعوّض النقص الحاصل في الطلب المحلي، وهذا اقتصادياً يمثل اشارات تحذيرية تستدعي الانتباه والوقوف عند مسألة ضعف الطلب المحلي في الاقتصاد الأردني، إذ يعكس ضعف هذا الطلب تراجعاً في القوّة الشرائية للمواطن الأردني وارتفاعاً في تكاليف المعيشة دون زيادة مقابلة في الدخول الحقيقية، وهنا أقول الدخول الحقيقية التي تتأثر بشكل كبير بالأعباء الضريبية المتزايدة والمُرهقة، إضافة الى فقدان الثقة الاستهلاكية في المجتمع الأردني نتيجة استمرار ارتفاع معدلات البطالة والتي ما زالت تحتاج الى معالجة من جذورها وزيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي. كما أنّ الاعتماد على الصادرات فقط لدفع النمو الاقتصادي يعني بأنّ الاقتصاد أصبح أكثر عرضة للصدمات الخارجية كتقلبات الطلب العالمي والتوترات التجارية الدولية والتغييرات في أسعار السلع والخدمات، والتي هي بالأصل عوامل خارجية لا يمُكن للأردن السيطرة عليها وتؤثر مباشرة وملحوظ في أداء اقتصادنا.

إنّ إشادة صندوق النقد الدولي بأداء الاقتصاد الأردني اليوم مُهمّة، إلا أنها إشادة ترتكز بشكل أساسي على مؤشرات الاقتصاد الكلي ومدى الانضباط المالي الذي يحققه الأردن. فبالرغم من أهمية هذه الإشادة وهذه المؤشرات إلا أنها عاجزة عن أن تعكس الصورة الكاملة التي نُريد. فجودة النمو الاقتصادي واستدامته وأثره الاجتماعي على عدد من الجوانب أهمها التنويع العادل للعوائد الاقتصادية وتوفر فرص العمل وتحسّن الخدمات العامة مازالت غائبة، وهي بالتأكيد مؤشرات ينتظرها المواطن الأردني للإشادة بحجم الإنجازات الحاصلة في الاقتصاد الأردني.

لذلك وحتى نعيد الاقتصاد الأردني للمسار الصحيح لنُحقّق أهداف رؤية التحديث الاقتصادي الطموحة، لابدّ أولاً من إعادة التوازن في علاقتنا مع صندوق النقد الدولي، فالانضباط المالي مُهم لكنّه لا يُمكن أن يكون على حساب الاستثمار في الجوانب التي تُعزز التنمية المستدامة للأردن. فلابدّ لبرامج الصندوق أن تُركّز بشكل أكبر على النمو الشامل والعدالة الاجتماعية وليس فقط على المؤشرات المالية الكلية التي تكون في كثير من الأحيان مؤشرات صماء. رؤية التحديث الاقتصادي التي يتبناها جلالة الملك اليوم رؤية طموحة وشاملة تستدعي أن يكون أيضاً تفكيرنا الاقتصادي شاملاً لنبني اقتصاداً قادر على انتاج وخلق فرص عمل نوعية لطاقات شبابية طموحة ومُميزة وبما يحقق العدالة الاجتماعية ويضمن مستقبل أكثر ازدهاراً. فالسؤال اليوم كيف يمكن أن نحقق معدلات نمو اقتصادي تتجاوز الـ 5٪ بحسب رؤية التحديث الاقتصادي؟ الإجابة بكلِّ تأكيد ستكون من خلال تغيير أسلوب تفكير الفريق الاقتصادي للحكومة والقائمين على التخطيط الاستراتيجي للتنمية الاقتصادية من اعتبار النمو غاية وهدف في حد ذاته نتغنى به إلى وسيلة فعّالة لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة.

Share This Article