صراحة نيوز-بقلم: جهاد مساعده
في مختبرات المجد، لا تُقاس القيمة بعدد الذرّات، بل بوزن الأخلاق. وبين أنابيب الكيمياء وموازين الوفاء، ظهر نوعٌ جديد من التفاعلات… كيمياء النكران؛ تفاعلٌ ينتج ضوءًا باهرًا، لكنه يخفي وراءه رائحة الخذلان. لقد اخترع الكيميائي موادّ تمتصّ الغازات، لكنه لم يكتشف بعد المركّب الذي يمتصّ الجحود، لأنه – في النهاية – اكتشف أن الجحود نفسه هو المركّب الذي صنعه بيديه، وخلّده باسمه.
كان يُتقن معادلات العناصر، لكنه أخفق في معادلة الضمير. حلّل المادة إلى ذرّات، ونسِي أن الوفاء للوطن مادةٌ لا تُختزل، وعنصرٌ نبيلٌ لا يُباع ولا يُنسى. ظنّ أن المجد يولد في الأنبوب لا في التراب، وأن الهوية مجرّد تفاعلٍ جانبيٍّ يُصنع في الخارج. بلغ من العلم ما جعله يطفو فوق الأرض، لكنه فقد من التواضع ما كان يثبّته فيها.
في الكيمياء، كلّ تفاعلٍ يحتاج إلى محفّز، أمّا في الحياة فالمحفّز هو الضمير. ومن دون ضمير، تتحول المعادلات إلى رماد.
بلغ ذلك الكيميائي القمّة، لكنه نسي الطريق إلى الوطن. تحدّث عن الشرف العلمي وتناسى شرف الاعتراف، ونسي أن القمم لا تصنع العظمة، بل تكشفها. وما أشدّ مفارقة أن يكتشف تركيب الهواء وينسى تركيب الانتماء.
الأوطان لا تطلب من أبنائها أن يحملوا صورها في جيوبهم، بل أن يحملوها في قلوبهم وكلماتهم حين يتحدّثون. غير أن بعض العقول، حين تشتدّ حرارة الشهرة، تتبخر منها جزيئات الوفاء، وتتحول ذرات الذاكرة إلى غبارٍ عالقٍ في الفراغ. إنها كيمياء خطيرة اسمها كيمياء النكران؛ ينتج عنها بخار الغرور، ويُعطَّل بها تفاعل الانتماء.
أيها الكيميائي، يا من تفكك المادة وتجهل تركيب نفسك، إن الغازات التي احتجزتها في مختبرك لن تنقذك من ذاكرة التاريخ. فالذاكرة لا تُفلتر، والوفاء لا يُقاس بالمول. ومن يبتكر كيمياءً للنكران، سيكتشف متأخرًا أن المجد بلا وطنٍ ليس سوى فقاعة هواءٍ مضغوطة، ترتفع لحظة ثم تنفجر في صمتٍ مخزٍ. لقد ظننت أنك أضفت إلى العلم مركّبًا جديدًا، فإذا بك تضيف إلى التاريخ مركّبًا آخر: مركّب الجحود، أثبتَّ به أن الإنسان قد يكون أدهى من العنصر، وأقسى من التفاعل نفسه.
لكنّ الوطن أعمقُ من أن تهزَّه معادلةُ نكران. إنه المختبرُ الأبديُّ للحياة، يُخرِجُ من ترابه العقولَ كما يُنبتُ القمح، ويصهر القلوبَ كما تُصهر المعادن، ويعلمُ أن الذهبَ ليس ما يلمعُ في الصخور، بل ما يبقى من وهجٍ في قلبٍ يذكُر.
فيا باغي الخيرِ أقبِل، ويا باغي الشرِّ أَقصِر، فالوطنُ لا يكره أبناءه، لكنه يُميّزهم؛ يعرفُ من أنضجتْه التجربةُ، ومن أحرقتْه الشهرة، ومن بقي — رغم المسافات — وفيًّا لأولِ ضوءٍ انبثق من ترابه.