من هلسنكي إلى أوسلو.. هل اظلت نوبل طريقها إلى عمّان؟

8 د للقراءة
8 د للقراءة
من هلسنكي إلى أوسلو.. هل اظلت نوبل طريقها إلى عمّان؟

صراحة نيوز- بقلم /د.عبدالله سرور الزعبي

اليوم، حيث يعيش العالم في صراعات متتالية، وتطغى عليه المصالح، وتذبل فيه القيم، يسطع من الشرق الأوسط صوتٌ لا يشبه غيره، صوت ملكٍ آمن بأن العدالة هي جوهر السلام، وان السلام ليس شعارًا يُرفع، بل مسيرة تُصنع بالحكمة والرؤية، والقيادة الحقيقية لا تُقاس بما تملكه من نفوذ، بل بما تزرعه من أمل. من عمّان، المدينة التي تحمل عبق التاريخ، وأوجاع المنطقة، وتتكئ على إرثٍ من التسامح وتطلّ على عالمٍ متغيّر، خرج صوتٌ الملك الهادئٌ والواثقٌ، وسط ضجيج الحروب، ليقدّم للعالم نموذجًا نادرًا في السياسة الهادئة ورمزًا للعقلانيةٍ في زمنٍ تاهت فيه البوصلة بين القوة والضمير.

لم يكن الملك يومًا خطيبًا في مهرجانٍ للسلام، بل قائد يعرف أن السلام يُصنع في الكواليس قبل المنصّات، وفي المواقف لا في الشعارات، والمصداقية، والاحترام المتبادل، وفي الصبر الطويل لا في الصفقات السريعة.
منذ تأسيسها، عام 1895، أصبحت جائزة نوبل للسلام مرآةً لقيم البشرية العليا. فهي تُمنح لمن يسهم في التقريب بين الأمم ونبذ الحروب وإعلاء شأن الإنسان فوق السياسة.
حملها عظماء مثل نيلسون مانديلا، ومارتن لوثر كينغ، الذي حوّل حلم العدالة إلى واقع، وأنور السادات، الذي اختار طريق التفاوض بدلًا من الدماء، وغيرهم، أسماء كتبت فصولًا في سجلّ النور وسط عتمة الحروب.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم يُخفِ رغبته الصريحة في نيل جائزة نوبل للسلام. فقد رأى أن اتفاقاته مع كوريا الشمالية أو صفقة القرن، وقوله بانه أوقف ستة حروب، كافية لتمنحه المجد العالمي، ويخلد اسمه بالتاريخ. الا ان العالم يدرك بان السلام لا يُصنع بالمؤتمرات ولا يُشترى بالصفقات، بل يُبنى على ثقة الشعوب وعدالة الحلول.
لكن الجائزة، رغم رمزيها، كانت دومًا موضوع نقاش، والسؤال الذي يتكرر مع كل عام، هل الجائزة تكافئ من تحدث عن السلام؟ أم من صنعه بالفعل؟ أم من يزرع ثقافة السلام في وجدان أمّته؟
في وسط هذا الازدحام، جاء تصريح الرئيس الفنلندي، حين أجاب على السؤال، عن الشخصية التي تستحق جائزة نوبل للسلام، فأجاب بهدوءٍ وثقة “الملك عبد الله الثاني هو من يستحقها، لأنه لم يتحدث عن السلام فحسب، بل عاشه ودافع عنه في أكثر مناطق العالم اضطرابًا”. هذا التصريح ليس حدثٌ دبلوماسي عابر، بل يعبّر عن لحظة اعتراف دولي نادرة بقائدٍ عربيٍّ حمل على كتفيه عبء الاستقرار الإقليمي، وصاغ خطابًا عابرًا للحدود من أجل الكرامة والسلام.
لقد قرأ الرئيس الفنلندي الدور الاردني بدقة، الدولة التي تعاني من محدودية الموارد وضغط الجغرافيا بين بؤر الصراع، أثبت الأردن أنه قادر على أن يكون نموذجًا عالميًا في الصبر والاتزان. فقد استقبل ملايين اللاجئين دون أن يُغلق بابه، وأدار علاقاته الإقليمية والدولية بذكاءٍ سياسي رفيع جعل منه شريكًا موثوقًا في كل مبادرة سلام. ورأى فيه قيمةً تستحق التكريم الدولي، خصوصًا أن أوروبا، بما تمثله فنلندا من حياد ومصداقية، تبحث عن نموذجٍ للسلام لا يقوم على القوة بل على الثقة والحكمة.
حين نقرأ مسيرة الملك عبد الله الثاني، نجد أنه لم يرفع لواء السلام في المناسبات، بل جعله عنوانًا لسياسةٍ متكاملة. فقد دافع بثبات عن القضية الفلسطينية باعتبارها جوهر الصراع في المنطقة، ولم يتنازل عن حلّ الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لإنهاء الظلم وتحقيق الأمن للجميع، بينما انشغلت دول كثيرة بالتحالفات المؤقتة والمصالح العابرة.
ولم يكن دفاعه عن القدس، وحقوق الفلسطينيين بدولتهم، وحقوق اللاجئين، موقفًا سياسيًا فحسب، بل رسالة أخلاقية وإنسانية تنبع من مسؤولية تاريخية ودينية تؤمن بأن العدالة لا تتجزأ.
كما حمل الملك على عاتقه مسؤولية حماية صورة الإسلام المعتدل من التشويه، عبر رسالة عمّان التي وُقّعت من كبار العلماء في أكثر من خمسين دولة، لتصبح وثيقة تاريخية تُدرّس في الجامعات وتُناقش في الأمم المتحدة بوصفها أحد أهم النصوص المعاصرة في الحوار الديني والإنساني.
هذا الإنجاز وحده كافٍ ليجعل العالم ينظر إلى الأردن كصوت الحكمة في بحرٍ مضطرب، وبذلك يكون الملك سبق الجائزة، لأنه حمل رسالتها قبل أن تُمنح، ومارسها قبل أن تُكتب في أي شهادة تقدير.
في المحافل الأوروبية والدولية، أصبح خطاب الملك عبد الله الثاني يُتداول بوصفه مرجعًا للسياسة الأخلاقية، لا سيما حين قال في الأمم المتحدة “لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي دون عدالة، ولا عدالة دون كرامة إنسانية”، تلك العبارة تجاوزت حدود القاعة لتصبح مبدأً أخلاقيًا في الدبلوماسية الحديثة، يتردّد صداها في الجامعات ومراكز التفكير السياسي حول العالم.
في المشهد الدولي المعقّد، والذي نعيشه اليوم، يبدو اللقاء بين الأردن وفنلندا رمزيًا بامتياز، الأول، يجسّد الاعتدال العربي والصوت الذي يدعو إلى الحوار لا المواجهة، ويحمل أثقال المنطقة دون أن يرفع صوته بالشكوى، ويعمل في صمتٍ من أجل سلامٍ حقيقيٍّ لا مكان فيه للمزايدات. الثانية، تمثل الحياد الأوروبي والعقلانية السياسية، هذه الجملة البسيطة، تشكل اعترافٍ عالمي بأن الأردن بقيادة الملك عبد الله الثاني يمثّل الضمير الأخلاقي للمنطقة، وصوت الحكمة الذي لا يتغير مهما تبدّلت العواصم والسياسات، وتعتبر رسالة من أوروبا للعالم بأن القيادة الأخلاقية لا ترتبط بالقوة العسكرية أو الاقتصادية، بل بقدرة القادة على حماية التوازن الإنساني وسط الصراعات، والاستقطاب، مما جعل من الأردن، دولة ذات وزن أخلاقي في معادلات المنطقة.
لأعوامٍ طويلة، تحدّث كثيرون عن أن الملك عبد الله الثاني، بانه يستحق جائزة نوبل للسلام لما قدّمه من مبادراتٍ عقلانية في منطقةٍ متفجرة. لكن مع كلام الرئيس الفنلندي، فان الحديث يتحوّل إلى مزيداً من الاعتراف الدولي بوزن الأردن ودوره العالمي.
الملك، لم يطلب جائزة نوبل للسلام، الا انه صنع أسبابها، وعمل من أجل المبدأ، وهو رجل الدولة الذي يكتب التاريخ بصمته الهادئ. فإذا كانت نوبل تكرّم عادةً من يوقف الحروب، فإن الملك عبد الله الثاني، يجب ان يكرَّم اليوم لأنه منع قيام حروبٍ كثيرة بصمته، واتزانه، وتحذيراته المبكرة.
قد لا يعرف العالم كل تفاصيل التحديات التي يواجهها الأردن، لكنه بدأ يعرف جوهرها، أن هذا البلد الصغير يقف منذ عقود على خط النار من أجل أن يعيش الآخرون بسلام.
ربما لم تُمنح جائزة نوبل بعد لمن يستحقها في الشرق الأوسط بحق، لكن التاريخ يعرف أن هناك ملوكًا لم يحتاجوا جائزةً ليُعترف بسلامهم. الملك عبد الله الثاني هو واحد من هؤلاء القادة الذين صاغوا السلام بالفعل لا بالتصفيق، وسبق الجائزة، لأنه حمل رسالتها قبل أن تُمنح، ومارسها قبل أن تُكتب في أي شهادة تقدير، وصنع من الأردن منارةً للسلام في زمنٍ تغيب فيه المنارات، وحمل عبء الأمل في منطقةٍ فقدت الكثير من الأمل.
قد يتغيّر العالم وتتبدّل الوجوه، لكن ستبقى عمّان، كما شاءها الملك منارةً للعدالة والإنسانية، تذكّر العالم أن العظمة لا تُقاس بالجوائز، بل بما تتركه من أثرٍ في ضمائر الأمم.
اننا في الأردن نعبر عن عميق الشكر والتقدير لشعب فنلندا ولرئيسها، مؤكدين أن ما يقدّمه الملك من جهود في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ومكافحة التطرف، وتعزيز الحوار بين الأديان، يمثل إرثًا وطنيًا يتجاوز حدود السياسة.

Share This Article