صراحة نيوز- راشد فريحات
في شرق آسيا المتوترة تتحرك واشنطن بخطوات محسوبة لا تخضع للبروتوكول، فزياراتها إلى طوكيو ليست دبلوماسية شكلية بل جزء من إعادة ترتيب النفوذ داخل المحيط الهادئ، حيث تدرك أن اليابان تمثل ذراعها المتقدمة في مواجهة تمدد الصين وأن وجودها هناك ليس حضورًا عسكريًا فقط بل تموضعًا داخل قلب القرار الآسيوي، ولهذا تُبقي واشنطن علاقتها بطوكيو محكومة بالتوازن بين الحاجة والسيطرة.
منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية لم تُمنح اليابان فرصة إعادة تشكيل نفسها بحرية، فالحظر العسكري المفروض عليها جعلها تعتمد على المظلة الأمريكية لضمان أمنها الداخلي والخارجي، ومع مرور العقود تحول هذا التحالف من حماية مؤقتة، إلى نظام تبعيةٍ مستمر يربط استقرار اليابان بمشيئة واشنطن، وهكذا وُلدت قوة اقتصادية عالمية داخل إطارٍ أمني مقيد مرسوم بعناية.
في الاقتصاد تكشف الأرقام عمق التشابك بين البلدين، فقد تجاوز حجم التبادل التجاري بينهما 230 مليار دولار عام 2024، منها 150 مليار صادرات يابانية و80 مليار واردات من الولايات المتحدة، ورغم توازن العلاقات ظاهريًا تسعى واشنطن لإعادة صياغة القواعد بما يخدم مصالحها الصناعية والزراعية، بينما تناور طوكيو للحفاظ على أسواقها دون خسارة الحماية الأمريكية، ويبقى النفط نقطة الارتكاز التي تُبقي هذا التوازن قائمًا
عسكريًا، تدرك واشنطن أن حضورها في اليابان ليس تفصيلاً ميدانيًا، بل عمودًا فقريًا لهيمنتها الآسيوية، إذ تنشر أكثر من خمسين ألف جندي أميركي في قواعد تمتد من “كادينا الجوية”، و”كامب فوستر”، في أوكيناوا إلى “يوكوسوكا البحرية”، قرب طوكيو، و”ميساوا”، شمالًا، تتوزع بين سلاح الجو والبحرية والمارينز والجيش، وتشكل شبكة دفاعية متكاملة تُستخدم للردع والمراقبة والسيطرة الجوية والبحرية في وجه الصين وروسيا معًا، فيما تُعد “يوكوتا” مركز القيادة والسيطرة لجميع العمليات الأميركية في اليابان.
هذه القواعد ليست جدرانًا عسكرية فحسب، بل خطوطًا متقدمة ترسم حدود النفوذ الأميركي في شرق آسيا وتُبقي الإقليم ضمن مدى اليد الأميركية دائمًا في الختام.
في الخاتمة لم تعد السيطرة تقاس بعدد القواعد ولا بحجم الجيوش، بل بعمق التغلغل في القرار الوطني للدول، فواشنطن تدير نفوذها عبر التحالفات لا الاحتلال، وعبر الاقتصاد لا القوة المسلحة، أما اليابان فتعرف أن الاستقرار الذي تشتريه بالحماية يأتي دائمًا على حساب سيادتها، والمنتصر في النهاية لا يرحل بل يعود في هيئة حليف.

