صراحة نيوز- بقلم . أ. ساره العطيات
دراسة قانونية في المسؤولية الجزائية والمدنية
تُعد حوادث المدافئ من الظواهر المتكررة سنويًا في المملكة الأردنية الهاشمية، لا سيما خلال فصل الشتاء، وتتنوع نتائجها بين الاختناق بغاز أول أكسيد الكربون، والحرائق المنزلية، والإصابات الجسدية، وقد تصل في بعض الحالات إلى الوفاة. وتثير هذه الحوادث إشكاليات قانونية مهمة تتعلق بتحديد المسؤولية القانونية والتكييف القانوني للأفعال المرتكبة، سواء كانت ناتجة عن الإهمال أو الرعونة أو مخالفة التعليمات الفنية المعتمدة.
أولًا: مفهوم التكييف القانوني
يقصد بالتكييف القانوني إضفاء الوصف القانوني الصحيح على الواقعة المادية، تمهيدًا لتطبيق النص القانوني الملائم عليها. وفي حوادث المدافئ، يتطلب التكييف القانوني بحث عنصر الخطأ، وطبيعة الفعل، والنتيجة المترتبة عليه، والعلاقة السببية بينهما.
ثانيًا: التكييف الجزائي لحوادث المدافئ
1. الجرائم غير المقصودة (الخطأ غير العمدي)
إذا ثبت أن الحادثة نتجت عن الإهمال أو عدم الاحتراز أو مخالفة القوانين والأنظمة، فإن الفعل يندرج ضمن الجرائم غير المقصودة وفق قانون العقوبات الأردني، ويتخذ التكييف أحد الأوصاف التالية:
التسبب بالوفاة نتيجة الإهمال:
إذا أدت المدفأة إلى وفاة شخص، نتيجة سوء الاستخدام أو عدم الصيانة أو تركيبها بشكل مخالف للتعليمات، دون توافر القصد الجرمي.
التسبب بالإيذاء بغير قصد:
في حال نتج عن الحادثة إصابات جسدية متفاوتة الخطورة.
ويُشترط في هذه الحالات:
ثبوت الخطأ.
تحقق الضرر.
وجود علاقة سببية مباشرة بين الخطأ والنتيجة.
2. الجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين والأنظمة
قد يثبت التكييف الجزائي إذا كان استخدام المدفأة مخالفًا للأنظمة المعتمدة، مثل:
استخدام مدافئ غير مطابقة للمواصفات.
العبث بوسائل السلامة.
تخزين الوقود بطرق غير مشروعة.
وهنا تقوم المسؤولية الجزائية حتى لو لم تقع وفاة، باعتبار أن مجرد تعريض السلامة العامة للخطر يُعد فعلًا معاقبًا عليه.
ثالثًا: المسؤولية الجزائية بحسب صفة الفاعل
1. مسؤولية رب الأسرة أو شاغل المكان
إذا ثبت أن رب الأسرة أو المسؤول عن المكان قد أهمل واجبات الحيطة والحذر، كترك المدفأة مشتعلة أثناء النوم أو عدم تهوية المكان، فيُسأل جزائيًا بحسب جسامة النتيجة.
2. مسؤولية الفني أو البائع
إذا كان الحادث نتيجة:
تركيب خاطئ.
صيانة غير مهنية.
بيع مدفأة معيبة أو غير مطابقة للمواصفات.
فإن الفني أو التاجر قد يُسأل جزائيًا في حال ثبوت الخطأ المهني أو الغش أو الإهمال الجسيم.
رابعًا: التكييف القانوني من حيث المسؤولية المدنية
بغض النظر عن قيام المسؤولية الجزائية، فإن المسؤولية المدنية تقوم متى ثبت الضرر، وتشمل:
التعويض عن الوفاة (الدية والتعويض المدني).
التعويض عن الإصابات الجسدية.
التعويض عن الأضرار المادية (احتراق الممتلكات).
التعويض عن الضرر المعنوي.
ويستند ذلك إلى القواعد العامة في القانون المدني الأردني، والتي تقضي بأن “كل ضرر يلحق بالغير يلزم فاعله بالتعويض”.
خامسًا: دور الدفاع المدني والأنظمة الخاصة
تلعب تعليمات الدفاع المدني والأنظمة الصادرة بموجب القوانين ذات العلاقة دورًا محوريًا في تحديد الخطأ، ويُعد مخالفتها قرينة على الإهمال، مما يعزز قيام المسؤولية القانونية بشقيها الجزائي والمدني.
وإن التكييف القانوني لحوادث المدافئ في التشريع الأردني يقوم أساسًا على فكرة الخطأ غير العمد، وتتفاوت المسؤولية بحسب جسامة الإهمال والنتيجة المترتبة عليه وصفة الفاعل. ويؤكد ذلك توجه المشرّع الأردني نحو حماية الحق في الحياة والسلامة الجسدية، وتحقيق الردع العام والخاص، إلى جانب ضمان حق المتضررين في التعويض العادل.
التكييف القانوني لحوادث المدافئ السنوية في ضوء اجتهادات القضاء الأردني
أولًا: موقف محكمة التمييز من الخطأغيرالعمد
استقر اجتهاد محكمة التمييز الأردنية على أن الخطأ غير العمدي يتحقق متى ثبت أن الفاعل:
أخلّ بواجبات الحيطة والحذر،
أو تصرف تصرفًا لا يأتيه الشخص المعتاد في ذات الظروف،
أو خالف القوانين والأنظمة والتعليمات المعمول بها.
وقد قضت محكمة التمييز في أكثر من قرار بأن:
“الإهمال أو قلة الاحتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة يُشكّل ركن الخطأ في الجرائم غير المقصودة، متى ثبتت العلاقة السببية بين الفعل والنتيجة الضارة.”
وينطبق هذا المبدأ على حوادث المدافئ التي تنتج عن:
ترك المدفأة مشتعلة في مكان مغلق،
عدم تهوية الغرفة،
استخدام وسائل تدفئة غير آمنة.
ثانيًا: السوابق القضائية في قضايا التسبب بالوفاة نتيجة الإهمال
استقر القضاء الأردني على أن التسبب بالوفاة لا يشترط فيه القصد الجرمي، بل يكفي ثبوت الخطأ والنتيجة والعلاقة السببية.
ومن المبادئ القضائية الراسخة:
“متى ثبت أن الوفاة وقعت نتيجة فعل مهمل، ولو دون قصد، فإن الفعل يُكيّف على أنه جنحة التسبب بالوفاة، ولا ينفي المسؤولية كون الفاعل لم يتوقع النتيجة.”
وبالقياس على ذلك، فإن:
وفاة أحد أفراد الأسرة اختناقًا بسبب المدفأة،
أو وفاة نزيل في مكان عام بسبب سوء التدفئة،
تُعد صورة واضحة للتسبب بالوفاة نتيجة الإهمال، متى ثبت علم المسؤول بخطورة الفعل أو إمكان توقعه للنتيجة.
ثالثًا: الاجتهاد القضائي في رابطة السببية
أكدت محكمة التمييز أن رابطة السببية تتحقق إذا كان الفعل سببًا منتجًا للنتيجة، ولو لم يكن السبب الوحيد.
وقد جاء في أحد المبادئ القضائية:
“يكفي لقيام العلاقة السببية أن يكون فعل المتهم قد أسهم في إحداث النتيجة، ولا يشترط أن يكون السبب الوحيد لها.”
وعليه، فإن:
ترك المدفأة دون رقابة،
أو تركيبها بطريقة غير سليمة،
يُعد سببًا منتجًا للنتيجة حتى لو ساهمت عوامل أخرى كضيق المكان أو سوء التهوية.
رابعًا: مسؤولية الفني أو التاجر في اجتهاد القضاء
أقرت محكمة التمييز مبدأ المسؤولية الجزائية والمهنية للفني أو التاجر إذا ثبت:
الإهمال الفني،
أو مخالفة أصول المهنة،
أو بيع جهاز غير مطابق للمواصفات.
وجاء في أحد اجتهاداتها:
“يُسأل المهني جزائيًا إذا ثبت أن الضرر نتج عن إخلاله بالقواعد الفنية الواجبة الاتباع، ولو لم يكن يقصد إحداث النتيجة.”
وبالتالي، فإن فني التدفئة أو بائع المدافئ قد تثبت مسؤوليته إذا:
أهمل فحص سلامة المدفأة،
أو ركبها بصورة مخالفة لتعليمات السلامة.
خامسًا: السوابق القضائية في المسؤولية المدنية والتعويض
أكدت محكمة التمييز الأردنية أن المسؤولية المدنية مستقلة عن المسؤولية الجزائية، وقد تقوم حتى في حال:
إسقاط الحق الشخصي،
أو وقف الملاحقة الجزائية.
ومن المبادئ المستقرة:
“إسقاط الحق الشخصي لا ينفي قيام الخطأ المدني، ولا يحول دون الحكم بالتعويض متى ثبت الضرر.”
وعليه، فإن ذوي الضحية في حوادث المدافئ:
لهم الحق بالمطالبة بالتعويض،
سواء أُدين الفاعل جزائيًا أم لا.
سادسًا: حجية تقارير الدفاع المدني في الاجتهاد القضائي
أعطى القضاء الأردني وزنًا قانونيًا مهمًا لتقارير الدفاع المدني، واعتبرها:
“من البينات الفنية التي يجوز للمحكمة الاعتماد عليها في إثبات سبب الحريق أو الاختناق ومدى مخالفة قواعد السلامة العامة.”
وتُعد هذه التقارير عنصرًا حاسمًا في:
إثبات الخطأ،
وتحديد المسؤول،
وترجيح العلاقة السببية.
يتضح من استعراض السوابق القضائية الأردنية أن القضاء يتجه إلى تشديد مفهوم المسؤولية في حوادث المدافئ، انطلاقًا من:
خطورة النتائج،
وسهولة تفاديها باتباع قواعد السلامة.
وقد كرّس القضاء مبدأ أن:
الجهل بخطورة وسائل التدفئة أو الاستهانة بها لا يعفي من المسؤولية الجزائية أو المدنية.

