وداع الجذر الفلسطيني: محمد بكري صوت الحق والمقاومة”

3 د للقراءة
3 د للقراءة
وداع الجذر الفلسطيني: محمد بكري صوت الحق والمقاومة"

صراحة نيوز-فارق الحياة يوم الأربعاء، الممثل والمخرج الفلسطيني القدير محمد بكري، عن عمر ناهز 72 عاماً، بعد مسيرة فنية ووطنية استثنائية جسد فيها وجع فلسطين، وصمد أمام كل محاولات طمس صوتها.

رحل بكري، ليس كمجرد فنان، بل كـ”جذر فلسطيني وسيم”، كما وصفه كثيرون، تاركاً وراءه إرثاً إنسانياً وفنياً لا تمحى آثاره.

وُلد محمد بكري عام 1953 في قرية البعنة بالجليل، ونشأ على تراب فلسطين، يحمل في عينيه حكايات النكبة، وفي قلبه وجع اللاجئين، وشغفاً لا ينضب بالفن كوسيلة للتحرير والتعبير. منذ أن دخل عالم المسرح من بوابة جامعة تل أبيب، لم ير في الفن ترفاً أو تسلية، بل سلاحاً أخلاقياً لفضح الظلم، وصوتاً للصامتين. وعلى خشبات المسارح من “هابيما” إلى “القصبة” في رام الله، ومن “مسرح حيفا” إلى مسارح باريس وهولندا، حمل بكري فلسطين في كل حركة، في كل نظرة، في كل كلمة.

توفي الفنان والمخرج الفلسطيني الكبير محمد بكري، بعد مسيرة مليئة بالتحديات، فقد واجه ملاحقة سياسية شرسة من السلطات الإسرائيلية، خصوصاً بعد إخراجه الفيلم الوثائقي “جنين جنين” عام 2002، الذي سجل شهادات حية من قلب مخيم جنين إبان اجتياح “الدرع الواقي”، ووثق الدمار والموت الذي خلفه الاحتلال. فرض حظر على عرض الفيلم في إسرائيل، ووجهت له تهم باطلة، وقدمت ضده دعاوى قضائية استمرت سنوات. ومع ذلك، لم ينكسر، وقال بصراحة: “لو عاد الزمان، لكنت أعدت تصوير الفيلم مرات، لأفضح جرائم لا إنسانية لا يريد الاحتلال أن يراها العالم”.

لم يكن فيلم “جنين جنين” مجرد فيلم، بل وثيقة شهادة لشعب يحاصر ويحاصر صوته، لكن بكري فضل أن يكون صوتاً، ولو كلفه ذلك غرامات ومحاكمات وعزلة فنية. ومع ذلك، استمر في الإنتاج والإخراج والتمثيل، مجسداً القضية الفلسطينية دون مساومة.

عرفته السينما من خلال أفلام مثل “وراء القضبان” الذي رشح لجائزة الأوسكار، و”حيفا”، و”هانا ك.”، لكن المسرح كان موطنه الحقيقي. عروضه مثل “المتشائل” المونودراما التي أعاد فيها إحياء رواية إميل حبيبي، و”الليل والجبل”، و”الموت والعذاء”، لم تكن مجرد عروض فنية، بل شواهد مقاومة ثقافية. فقد آمن أن المسرح مساحة للحرية، وأن التمثيل وسيلة لاستعادة الذات.

ظلّ بكري متمسكاً بهويته الفلسطينية، رافضاً أي شكل من أشكال التطبيع مع المحتل، ولم يساوم على الحقيقة أو روايته، وكان دائماً يؤكد: “أنا فلسطيني، وهذا لا يناقش”.

ترك خلفه زوجته ليلى وستة أبناء، بينهم آدم وزياد وصالح، الذين ساروا على خطاه في الفن والثقافة، ليكملوا مسيرة والدهم، فتصبح العائلة علامة بارزة في المشهد الثقافي الفلسطيني، تمتد جذورها من البعنة وتتفرع في كل فضاء حر.

في غيابه، لا نقول “وداعاً”، بل “إلى لقاء”، حين يرفع القبور ويحيى الصادقون. فمحمد بكري ليس مجرد اسم في سجل الفن، بل جزء من الذاكرة الفلسطينية الحية، صوت لا يهدأ، وصورة لا تمحى. رحل الجذر، لكن فلسطين تبقى، لأن رجالاً مثله زرعوا في ترابها إرادة البقاء.

Share This Article