صراحة نيوز- بقلم / عاطف أبو حجر
في ربوعِ أمّ زيتونة، وفي مغاريب السلط حيث تمتدّ السهول وتتعانق التلال، تقف أشجارُ البلوط شامخةً كأنها حرّاسُ الذاكرة الأولى. هناك، كنا نجمع حبّات البلوط المتناثرة على الأرض، وأحيانًا نتسلّق الأشجار المتشابكة القريبة من بعضها، نلامس الأغصان ونختبر صلابة الجذوع، ونحفظ تفاصيل المكان كما تُحفظ الملامح الأولى في الوجدان.
ولا أنسى أشكال حبّات بلوط الفِشّ، تلك التي تشبه لوحةً فنيةً بديعة، يعجز عن محاكاتها أشهر فناني التشكيل في العالم؛ ألوانها، خطوطها، وتناسقها الطبيعي الذي لا يُتقنُه إلا الخالق. كما أتذكّر أوّل مرّةٍ أحضر فيها أبي الكستناء إلى بيتنا؛ كان شكلها غريبًا علينا، لكن طعمها ـ نيئةً أو مشويّة ـ كان لذيذًا، ومع ذلك ظلّ الفرق واضحًا وكبيرًا بين بلوط بلادنا وكستناء بلادهم.
ينتشر البلوط في وطننا في محمية غابات عجلون وجرش، ومحمية دبين وسوف، وفي غابات بصيرا والرشادية في الطفيلة، وغابات الكورة في إربد، وكذلك في زي وجلعاد، وفي مغاريب السلط ولا سيما مناطق أم زيتونة والبطين ووادي شعيب. هذه الأشجار ليست مجرد نباتٍ بريّ، بل هي صورةٌ منا؛ تشبهنا بشموخ رؤوسنا، وبملامح وجوه كبارنا من المعمّرين، وبآثار العمر والسنين المحفورة على الجذوع كما هي محفورة في الذاكرة.
أما الكستناء، فتمتد غاباتها في جبال تشينلينغ في الصين، وغابات ساحل البحر الأسود في تركيا، وجبال الأبنين في إيطاليا، وغابات الماسيف سنترال في فرنسا. قد تكون ثمارها لذيذة، مختلفةً في الشكل والطعم، لكنها تبقى ـ رغم جمالها ـ غريبةً عنا، لا تحمل دفءَ الأرض التي حملتنا ولا ملامح الهوية التي نعرفها.
يبقى أن أقول أن حبّ الأرض هو الجذر الأعمق الذي لا تقتلعُه السنوات ولا تُغيّره المسافات؛ فالأرض ليست ترابًا نمشي عليه، بل ذاكرةٌ تسكننا، وطفولةٌ لا تشيخ. في تفاصيل البلوط نقرأ حكاياتنا الأولى: أيادٍ صغيرة جمعت الثمر، وقلوبٌ بريئة تعلّمت معنى الانتماء دون دروسٍ أو شعارات. كل حبّة بلوطٍ تحمل أثر ضحكةٍ قديمة، وكل جذعٍ معمّر يشهد على أعمارٍ مرّت وبقيت. هكذا نكبر، وتبقى الأرض ثابتةً فينا، نعود إليها كلما أثقلتنا الغربة، فنجد أنفسنا بين ظلال أشجار البلوط، حيث يبدأ الوطن… وحيث لا ينتهي الانتماء.

