صراحة نيوز – المهنة معرص ! عنوان مقالة للكاتب المصري عبد الناصر سلامة رئيس تحرير جريدة الأهرام السابق تحاكي الواقع في العديد من الدول تاليا نصها
بصراحة ، وبعد ٤٠ سنة خدمة في البلاط ، أستطيع القول ، بل والتأكيد على أن أكثر ما يمكن أن يمثل خطراً على أي مجتمع ، هو التعريص ، آه التعريص ، هو أخطر بكثير من الخيانة ، والمعرص أخطر على المجتمع من المعرص له ، وهناك فرقاً شاسعاً بين التعريص والنفاق.
النفاق قد لا يخرج عن مجاملة ذلك الشخص المريض نفسياً الذي يحتاج إلى مجامله في الشياكة رغم إنه ردئ المظهر ، مجاملة في الأداء رغم انه بليد الفكر ، مجاملة في الأخلاق رغم انه وضيع السلوك .. أما التعريص فهو تزيين كل الممارسات على أنها عين العقل يافندم ، حتى لو كانت تنازلاً عن أرض أو عرض ، أو خيانة أو عمالة ، أو اتخاذ قرارات من شأنها دمار المجتمع ، هي إشادة عفوية بكل شئ وأي شئ دون تكلف ، ذلك أنه يصبح سلوكاً طبيعياً نتيجة جينات متوارثة ، واكتساب مهارات في الوقت نفسه بمرور الوقت.
أيضاً الخيانة تمارَس في السر ، وحين يُكتشف فاعلها سوف توضع رقبته على المقصلة ، أما التعريص فيمارس جهاراً نهاراً وعلى مدار الساعة ، دون أي مساءلة ، لا في الحاضر ولا في المستقبل.
التعريص أصبح مهنة ، تتبارى فيها النخبة المعرصة ، ليس ذلك فقط، بل تعمل على تنشئة أجيال جديدة من كوادر يتم تدريبها في مراكز إعداد ، سوف تكون هذه مهنتهم التي يقتاتون منها في المستقبل ولا شي غيرها.
المعرص يمكن أن يؤكد مثلاً أن جزيرتي تيران وصنافير برازيليتان ، مادام المعرص له يريد ذلك ، وسوف يضيف أنه رأى بعينيه بيليه ورونالدينيو يلعبان هناك.
المعرص سوف يؤكد أن سد النهضة أكثر فائدة لمصر من السد العالي ، وقد رأي في المنام الست الوالدة تؤكد له ذلك.
المعرص سوف يؤكد أن حقول نفط الغاز بالبحر المتوسط من حق اليونان وقبرص وإسرائيل ، وقد وجد ورقة في جيب بدلة جد جمال عبدالناصر بهذا المعنى.
المعرص سوف يؤكد أن زيادة الديون على مصر بشرة خير للأجيال المقبلة ، وسوف يستشهد في ذلك ببيت شعر لوزير المالية يقول : اصرف مافي الجيب يأتيك مافي الغيب.
المعرص سوف يؤكد أن شقة ٦١ متراً في العاصمة الإدارية سعرها ١،٨ مليون جنيه ، فيها بركة عن شقة في أي مكان آخر ، وسوف يستشهد بمقولة لوزير الأوقاف في هذا الشأن.
المعرصين في كل الأحوال يزينون للحاكم مايريد ، من ديكتاتورية ، وفساد ، وجهل ، وفرعنة، وخرافات ، إلى أن تسقط الدولة ، أي دولة ، في قاع الجب، في الوقت الذي تنتظرهم فيه حساباتهم السرية في بنوك العالم، وعقاراتهم في عواصمه ، واستثماراتهم حتى داخل أوطانهم التي باعوها بالبخس.
لذا لا عجب أن نجد مذيعاً ينبح طوال الليل من داخل وطنه ، لحساب دولة أخرى دون حياء أو خجل ، لا عجب أن نجد صحفياً يروج طوال الوقت لسياسة هذه الدولة أو تلك ، في غيبة من أجهزة الوطن الذي يعيش فيه ، لا عجب أن نجد سياسياً عاش حياته كلها مع كل الانظمة يحترف مهنة التعريص ، إلا أن الدولة لا تستطيع الاستغناء عنه نظراً لخبراته المتراكمة في هذا الشأن ، لا عجب أن نشاهد تنفيذياً لا يستطيع أن يتخلى عن هذه الآفة حتى في أحلك اللحظات التي يمر بها الوطن ، وهم هنا يرددون مقولة غريبة جداً وهي : نحن لا نتغير وإنما الأنظمة هي التي تتغير
لا عجب أن نجد استسلاماً تاماً من كل الشرفاء لذلك الذي يجري، وحين يستيقظون يكون قد فات الأوان ، ذلك أن أجيالاً جديدة من المعرصين تحت التمرين تتسلم المسئولية من المعتزلين، ولا عزاء للمعترضين.
أيها السادة ، إذا أردنا الخير لهذا المجتمع ، فالبداية من هؤلاء ، لابد من اجتثاثهم أولاً ، حين ذلك سوف يرتدع الجميع ، السياسيين والفاسدين والمترهلين والفاشلين ، لأنهم لن يجدوا من يزين لهم سوء أفعالهم ، البداية من المعرصين لسبب واحد ، وهو أنها أصبحت مهنة بأجر ، لا يمتهنها الإعلاميون فقط ، أو البرلمانيون فقط، وإنما أصبحت هناك كتائب ولجان متخصصة في الترويج للتعريص ، هذه هي مهنتهم ، هي إذن أخطر من مهنة الدعارة والقوادة ، لأنها سوف تفسد المجتمع بأكمله ، سوف تساعد على ضياع حقوقه ومقدراته.
نحن إذن أمام مشكلة وجودية ، نكون أو لا نكون ، ليكن هاشتاج المستقبل