صراحة نيوز – كتب عوض ضيف الله الملاحمه
الحُزن عمّ الوطن وطغى ، على شيخٍ جليلٍ إرتقى ، إرتقى سُلّم المجد وإمتطى ، الباسقات العاليات سُلّما . فُجعنا اليوم بفقيدٍ عزيزٍ ، له الكثير ، وما عليه الّا إتفاقية وادي عربه الإستسلامية ، الإنهزامية المشؤومة . أول الركائز التي إستمد منها المرحوم دولة الدكتور/ عبدالسلام عطا الله المجالية تَمَيُّزَ شخصيتة ، هو إنتسابه لقبيلة المجالية العزيزة الكريمة المتسامحة ، التي تتميز ببعض الخِصال المحترمة .
شَغل الراحل العديد من المناصب المتقدمة ، وتفرد عن غيره بأنه لم يترك منصباً شغله الّا وترك فيه بصمة او صَرحاً ، او مَعلماً وطنياً بارزاً ومتميزاً ، يصعب عليّ حصرُها ، لكن غالبية ان لم يكن كل الاردنيين ربما يعرفونها أكثر مني .
تَشرفتُ بالتعرفِ على دولة أبا سامر بعد تَركهِ رئاسة الوزراء للمرةِ الأولى ، حيث خَرج عاتباً ، وأتى الى أبوظبي بدعوة شخصية من معالي الشيخ / نهيان بن مبارك آل نهيان ، وزير التعليم العالي ، حيث كانا أصدقاء . وأقام ما يقارب الشهر في أبو ظبي ، وتم الإحتفاء به بما يتناسب مع قَدرِهِ . وعلِمت بذلك منذ بداية قدومه وإقامته في فندق شيراتون أبوظبي ، فإتصلت به مُعرفاً بنفسي ، وراغباً في زيارته ، فرحّب كثيراً ، وأثناء الزيارة ، دعوته لإكرامه في بيتي ، لكنه إعتذر ، قائلاً إن إقامته ستطول ، واذا لبى دعوتي ، فلن يتمكن من الإعتذار عن كل دعوات أبناء الجالية الأردنية ، وأضاف : مع أنه يحب قرية زحوم ويعتبرها قرية نموذجية على مستوى الوطن لسببين الأول : تميزها برقي التعايش والإنسجام والألفة والهدوء بين سكانها ، والثاني : تميز جميدها ومناسفها . تفهمت تحفظه ، وتمت دعوته لإلقاء محاضرة في الجمعية الأردنية في أبوظبي ، عقبها دعوة عشاء في الجمعية .
تكررت زيارات دولته الى أبوظبي ، وأصبحت كل ( ٦ ) شهور ، لأنه أصبح عضواً في مجلس أمناء الجامعة اليابانية العربية ( على ما أعتقد ) ، وكان يُخطط ليتوقف في أبوظبي لعدة أيام عند ذهابه وعند عودته من اليابان . وكنت أحرص على زيارته كلما عرفت بوجوده . وفي إحدى زياراتي له ، وبمجرد ان سلّمت عليه ، لم يبدأ الحديث في الشأن العام ، ولم يُعلِّق على رفضي لإتفاقية وادي عربة المشؤومة بالنسبة لي ، ولكنه إشتكى من كثرة طلبات الأصدقاء ليُحضِر لهم أشياء عند سفره ، قائلاً انه رجلٌ كبير في السن ، ولا يحبذ التجوال ، وان له طابعه الخاص أثناء السفر ، وقال انه قبل أسابيع كان في فرنسا ، وقد أوصاه أحد الأصدقاء على ان يُحضِر له عِطراً حديثاً ، وقال : ذهبت للمتاجر المحيطة في الفندق ولم أجد العطر المطلوب ، وعندما عدت ، وإعتذرت له ، شعرت أنه عَتِبَ عليّ . إستأذنته وقاطعته طالباً ان يعطيني إسم العِطر ، عندها إبتسم إبتسامته الرزينة الوقورة وقال : (( إنتو الملاحمه شو بعرفكم في العطور !؟ إنتو بتعرفوا في الوذح )) أي رائحة الأغنام . ضحكنا سوياً ، وقلت له : هذا زمن العجايب يا باشا ، ممكن اللي بيعرف الوذح يعرف في العطور ، بس جَرّب ، ربما أخلصك من عتب صديقك . نهض وأخرج قصاصة من الورق وأعطاني إياها ، فنقلت إسم العطر وأعدتها له . وبعد برهة من الزمن إعتذرت وغادرت . وبمجرد وصولي سيارتي ، إتصلت من هاتف السيارة في صديقي رجل الأعمال الأردني السيد / محمد عيسى ، مالك المحلات الكبرى الشهيرة المنتشرة في كل دول الخليج ، وقلت له ، أين انت يا صديقي ؟ أجاب بأنه في المكتب ، قلت له تمام ، هل وصلك عطر نوع كذا !؟ قال نعم وصلني حديثاً . طلبت منه ان يحضّر لي زجاجتين من العطر كهدية مرموقة ، وعندما وصلت ، وإذ به يُقدِّم لي ثلاث زجاجات من العطر ، قائلاً بان الثالثة لي ، ورفض أخذ قيمتهن . وبعد تناولي القهوة معه ، شكرته ، وغادرت . إتصلت فوراً مع الباشا أبا سامر في الفندق ، وعندما عرّفت بنفسي ، ردّ قائلاً : خير !؟ ما قبل شوي كنت عندي ، قلت له تاجر الوذح لقالك العطر ، فقهقه برزانته المعهودة ، وسررت أنا شخصياً برقي دعابته . سلمته زجاجات العطر الثلاثة ، وقلت له : يا باشا زجاجتين بدل الواحدة لصاحبك العاتب عليك ، والزجاجة الثالثة لك ، شايف يا باشا كيف الزمن تغير !؟ إبن زحوم اللي بيعرف بالوذح ، صار يعرف في العطور !؟ سُررتُ بقهقهته المعهودة وغادرت .
الباشا المتفرد خُلقاً ، وعطاءاً ، وإنتماءاً ، وتميزاً ، رجل الدولة ، صاحب القامة الرفيعة ، مُنشيء الصروح الوطنية الرمزية المتفردة ، لقد كفيت ، ووفيت ، كنت بقدر المسؤوليات التي عُهِدت اليك ، كنت شامخاً ، مترفعاً عن كل التفاهات والرزايا ، كنت وطنياً بإمتياز ، لم تُغلِق الأبواب أمام المواطنين ، كان الوصول اليك أسهل وأيسر من بعض من إمتهنوا أعمال السكرتارية . كنت إبن الوطن ، ومنه ، واليه ، عشت في كنف والدك حياة شقاء وعوز ، وكنت طبيباً ، وكانت يداك بلسماً ، وخدمت جندياً بشرف ، وكنت قائداً فذاً ، إرتقيت بمهنة الطب والتعليم العالي ، وكنت شيخاً مُهاباً جليل القدر ، مضافتك في قرية الياروت عنوانك . إعتليت كل المناصب ، ولم تتغير ، ولم تُفتن ، ولم تتعالى ، هيبتك ربانية ، ووقارك أصيل . كنت تزيد المناصب بهجة ، وهيبةً ، وعِزة . كبُرت المناصب بك ، ولم تُضِف لك شيئاً . رحمك ربي أيها السنديانة الكركية الشماء الأبية ، والى رحمة ربك وغفرانه ، وان شاء الله إقامتك في رياضه وجنانه .