صراحة نيوز – بقلم م. عبدالرحمن “محمدوليد” بدران
عندما نعود إلى دهاليز التاريخ نجد فرنسا تلجأ لأخذ المساعدة من الجزائر التابعة للدولة العثمانية، بعدما فرضت الدول الأوروبية الحصار على فرنسا بسبب قيام الثورة الفرنسية (1789-1799) والتي ألهمت شعوب أوروبا الانطلاق بثورات الحرية والمساواة والتي عرفت بثورات “الربيع الأوروبي” بعد ذلك بحوالي 50 عاماً، وما كان من “الداي حسين” والي الجزائر من قبل العثمانيين بعد ذلك إلا الطلب من الفرنسيين إعادة ما تم تقديمه من مساعدات كحق طبيعي، ليأتيه الرد بمنتهى الاستخفاف والاستنكار والفظاظة فيقوم بدوره بطرد القنصل الفرنسي بعد التلويح له بمروحة في يده، تلك المروحة التي أخذتها فرنسا ذريعة لغزو الجزائر واحتلاله والإجرام في حق شعبه ثأراً لشرف فرنسا الذي تمرغ بالتراب، في احتلال استمر من العام 1830 وحتى الخامس من تموز/يوليو من العام 1962، عندما أعلن استقلال الجزائر وشعبه الذي كان الاحتلال ينكر وجوده من الأساس حتى آخر اللحظات، لكنه بإصراره وتضحياته وتصميمه عبر السنين وجيلاً بعد جيل أرغم الاحتلال وزعيمه “شارل ديغول” الخروج للتصريح يومها مبرراً انكساره وهزيمته بالقول: “لا قيمة لسياسة خارج الواقع”، معتبراً أن الأمر لا يستحق كل هذه التضحيات، وليتم طرد الاحتلال الذي عمل منذ أول اللحظات على طمس الهوية الجزائرية وخلق فكرة أن الجزائر جزء لا يتجزأ من الدولة الفرنسية والشعب الفرنسي، وأنه لا وجود لشيء اسمه شعب الجزائر، لكن ذلك الشعب قاتل وناضل وصمد بحثاً عن كرامته وحريته دافعاً أغلى الأثمان ومقدماً أكبر التضحيات، حتى تجاوز عدد من قدموا أرواحهم فداء للوطن مليون ونصف إنسان في بلد أصبح من يوم استقلاله يعرف (بلد المليون شهيد).
لم يترك الاحتلال وسيلة ولا جريمة إلا وقام بتجربتها لإسكات صوت الحق الجزائري، فعمل على طمس الهوية العربية، وإلغاء أي صلة لشعب الجزائر بدينه الإسلامي، وإيجاد قوانين الفصل العنصري والتفرقة بين الجزائريين أنفسهم، وتسخير أبناء شعب الجزائر الأحرار كخدم للمستعمرين المحتلين، بل ووصل الأمر بهم إرسال جماجم أبطال المقاومة الجزائرية بعد إعدامهم لعرضها في متحف الإنسان الذي تم إنشاءه من قبل عالم الأنثروبولوجيا بول ريفييه في العاصمة الفرنسية في 1937، مبرراً إنشاء ذلك المتحف بهدف إثبات أن العنصر الأوروبي هو أصل البشرية وضرورة دراسة تطور الكائن البشري، وفي المقابل كان مجرمي الحرب في فرنسا يعملون على تزيين قصورهم بتلك الجماجم مفاخرة بانتصارهم عليهم، وهو ما يظهر مدى “إنسانية” هؤلاء، الرافضين إعادة تلك الجماجم إلى الجزائر أو حتى الاعتذار عن ذلك حتى يومنا هذا.
تعددت مجازر الاحتلال على مدار سنوات الاحتلال وتنوعت أساليبها للقضاء على مقاومة الشعب الجزائري الحر، ولعل من أشهرها عندما أطلق جنود الاحتلال الرصاص باتجاه أبناء شعب الجزائر عند خروجه محتفلاً بانتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945 ومطالباً فرنسا الوفاء بوعدها منحه الاستقلال، ليأتي الرد بإبادة أكثر من 45 ألف بالرصاص الحي!
ولم يوفر الفرنسيين وسيلة من وسائل التعذيب كالصعق الكهربائي، واستخدام الآبار المائية كسجون، وإلقاء المعتقلين من المروحيات، واستخدام الأبرياء العزل كدروع بشرية، وسرقة كل ما يوجد في أرض الجزائر من وثائق وتحف وخيرات، حتى وصل الأمر بالاحتلال إجراء التجارب النووية فوق الصحراء الجزائرية، والتي كان إشعاعاتها سبباً في العديد من أنواع الأمراض والأوبئة للشعب الجزائري، وغير ذلك من أساليب “الخنق بالدخان” عندما كان يتم جمع النساء والأطفال في كهوف ويتم إشعال الحرائق امام مدخل الكهف تاركين من بداخله لمصيرهم الحتمي، وكل تلك الأفعال كانت مبررة للاحتلال ومناصريه حتى وصل الأمر بأحدهم تبريرها بالقول أن احترام حقوق الانسان سيجعل من الحرب تستمر إلى أجل غير مسمى!
ولعل المفارقة هنا أن المبرر ذاته هو ما نسمعه من كل احتلال قام على الاجرام والطغيان والتجبر والكذب والخداع، إضافة لأن من يقرأ هذه السطور سيعرف حتماً سر الرابط المتجذر الذي بدأ بالظهور العلني منذ أول يوم لاستقلال الجزائر بين كل ما هو جزائري وكل ما هو فلسطيني، فقد ذاق الجزائريين ويلات الاحتلال وجبروته وقاوموه على مدى أكثر من 100 عام، عايشوا فيها أسوأ الظروف وخبروا فيها معنى الاحتلال وغطرسته وكيفية الوقوف في وجهه حتى إرغامه على إعادة الحق لأصحابه، ولذلك تجدهم يشعرون بألم ومعاناة أهل فلسطين الذين يعانون الاحتلال الاسرائيلي وإجرامه وعمله على طمس الهوية الفلسطينية، بل وإلغاء حقيقة وجود شعب فلسطيني من الأساس منذ ما يزيد عن 75 عاماً، وهنا نرى كيف يتفنن هذا الاحتلال هو الآخر كما كان الاحتلال الفرنسي من قبله وكما كل احتلال في جرائمه وطغيانه والإغراق في كذبه وتزويره للحقائق، والتي نرى إغراقها في تفاصيل الاجرام حتى تصل إلى إجبار طفل فلسطيني قبل أيام على تكسير لعبة العيد الخاصة به لأنها لعبة “مسدس” تدعو للعنف، ويقوم باعتقال عضو في مجلس النواب الأردني ضارباً بكل الاتفاقيات الدولية والدبلوماسية عرض الحائط كعادته وكما هو متوقع من احتلال قائم على الإجرام مثله، متناسياً أن ذلك النائب ينتمي لعشيرة أردنية أصيلة تزيد سنوات تاريخها في الجود والكرم ونصرة المظلوم عن سنوات تاريخ كيان ذلك الاحتلال المصطنع.
لكن لا غرابة في الأمر فكما أي احتلال آخر سيبقى ينكر الحقائق ويعمل على تزويرها، وستبقى الحقيقة الساطعة هي أن هناك في أرض فلسطين شعب ينتمي إليها مع كل امتداد له خارجها لن يقبل الخضوع قبل رفع علم دولته المستقلة رغم أنف المحتل مهما طال الزمن، وهي الحقيقة التي لا يمكن أن يراها من ابتلي بعمى البصر والبصيرة، فلطالما كان الاحتلال في أرض فلسطين كما كل احتلال قبله أو بعده “اعمى بطبعه” لا ولن يرى إلا خيال أوهامه، ولعله من الأجدى والأجدر به العمل بجدية من الآن على تجهيز مبررات انكساره وهزيمته “المحققة” والتي يراها كل حر شريف صادق قريبة بإذن الله.