صراحة نيوز- الدكتور رجائي حرب
سأقوم بالاستعجال بالكتابة عما شغل الشارع الأردني خلال الأيام القليلة الماضية، وعما أذهل كل أبناء الوطن، وشغل تفكيرهم، وشل تفاؤلهم، وأحبط اندفاعهم ومشاركتهم في التعبير عما يجول بخواطرهم نحو القضايا الوطنية وهو قانون الجرائم الالكترونية، وسبب الاستعجال هو خوفي من إقرار هذا القانون وملاحقتي على مقالتي التي ربما أكون قد سهوت في أحد السطور وتجاوزت نحو ما قد يجرمني ويرميني في غياهب السجون
ولطالما تغنينا كأردنيين بأننا كنا دائماً نتجاوز كل المحن التي واجهتنا منذ تأسيس المملكة الحبيبة بحكمة قيادتنا التي كانت تستوعب كل الأمور ولا يهمها من يخسر أو يكسب بقدر ما يهمها أن يبقى الأردن شامخاً بشعبه وصامداً باستمراره ووفياً لمبادئه التي قام عليها وهي احترام الانسان والمحافظة على الأرض وتقدير القيادة وصون النظام بشموخ العارفين وعزة الأوفياء الذين لا يبالون من مصائب الدهر مهما عوت الريح وزمجرت الخطوب. وكنا دوماً مؤمنون بأن هذا الحمى ومهما التفت حوله النيران فلن يحترق لأن قلوب شعبه عامرةً بالايمان بديمومة هذه الأرض المقدسة وعنده الوازع الكبير للدفاع عنه مهما علت الأمواج.
ومع تغير أحداث العالم، ظهر علينا- من بيننا- من زاغ بصره وارتجفت يده، وتغير لونه، وصار لا يفكر بحرمة هذا الانسان القابض على الجمر، والصابر على بلاء الضيق والعوز، والمُتَحمِّل كل ألوان الصبر والرباط، وصار لا يفكر بقداسة هذه الأرض التي تعاقدنا فيما بيننا على صون حرمتها، وعلى أن لا يُراق فيها دمٌ شريفٌ أو أن تُزهَقَ فيها روحٌ طاهرة، لأننا جميعاً أسرةً واحدةً قطعنا على أنفسنا عهد الشرف والوفاء وصون الكرامة ما دام نَفَسٌ يجري في صدورنا. وبدأت تظهر نداءات مؤلمة توجع كل الأردنيين، ولا تألُ جهداً بعدم الاكتراث براحتهم، وهدوءهم، وسلامة مستقبلهم، وصون حقهم في التعبير عن آرائهم أو مشاركتهم ببناء منظومة القيم والحرية والأخلاق التي أقسمنا جميعاً على صونها بالمهج والأرواح
وتكللت كل تلك الأوجاع بتقديم الحكومة لقانون الجرائم الالكترونية الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لا يشبهنا، ولا يتناسب مع مقاساتنا، ولا طريقة تربيتنا كأردنيين؛ وهنا أوضح وأقول: لقد عشنا في الأردن وصوتنا عالي، يصدح في كل المناسبات، نشارك، ونعبر، ونبدي رأينا؛ وحتى آباؤنا فقد كانوا ينادون ملكنا المغفور له الحسين الباني رحمه الله… ( هيه يا حسين ) بلا تكلف، ولا تصنع، ولا خوف؛ وكان الحسين الكبير يقبلها بصدرٍ رحب؛ لأن القائل كان بريء والمستمع كان عفوياً وصادق، متناغمون فيما بينهم، ولا تغريهم الالقاب ولا يستهويهم النفاق بأي شكلٍ من الأشكال. ثم يأتي جلالة الملك عبدالله الثاني، أطال الله عمره ويقول: أن الحرية في الأردن سقفها السماء؛ وحرية التعبير مصانة من كل خلل أو ملاحقة؛ وفرحنا بأن الملك الباني والملك المعزز قد وطدا هذا النسق في احترام حرية التعبير والرأي في وطنٍ نعتز فيه بمؤسسة الملك، ونعولُ عليها دوماً في إنصافنا باللحظات الحرجة من جور الحكومات التي تجحف أحياناً بحقوقنا.
وعندما شاهدنا السرعة المبالغ فيها بالتعامل مع القانون ومواده المضرة بالصحة وبمستقبل الأردنيين وسلامة الوطن وتآكل هيبة الدولة، تأكد لنا بالدليل القاطع بأن هناك من يريد توجيه البلد للتأزيم، وخلق حالة الصدام التي لا يرجوها أي أردني، وأن يجعل الأوضاع تنزلق إلى فوضى لا يتمناها أياً منا، وإصابةٌ في مقتل التحديث السياسي الذي رعاه جلالة الملك، وشكَّل له اللجان العديدة لبدئه وإقرار قانونٍ للأحزاب وللانتخاب، وسعى في كل أوراقه النقاشية إلى تثبيت هذا التحديث وتوطيده يوماً بعد يوم. ووافقناه كأردنيين بكل توجهاته خوفاً على وطنٍ نريد أن نعيش فيه بأمان وأن يبقى بخير لأجيالنا القادمة
إن هذا الوطن سيبقى قلعة الصمود والتحدي في وجه العابثين بأمنه واستقراره، والمتلاعبين بحالة السلم المجتمعي التي نتغنا بها ليل نهار، وكلنا ثقةً بأن ينحاز مجلس الأعيان بكل شخوصه المقدَّرين كمستشارين لجلالة الملك، وكرجال ثقة عند كل الأردنيين، أن ينحازوا لإرادة الشعب الذي رفض هذا القانون منذ طرحه، وأن يقوموا برده لمجلس النواب لعقد مزيدٍ من جلسات النقاش والحوار مع مؤسسات المجتمع المدني لتعديل ما يمكن تعديله في نصوصه والعقوبات المدرجة فيه والتي أصلاً غطاها قانون العقوبات الأردني منذ عام 1960 حين شمل جرائم ( ترويج الأخبار الكاذبة، والشتم، والتحقير، والقدح والذم، واغتيال الشخصية، والتعدي على الحريات ).
كلنا أمل ورجاء بأن يكون أعياننا على قدر المسؤولية، وعلى قدر ثقة جلالة الملك بهم، وعدم تمرير هذا القانون المقترح ليقترن بالارادة الملكية السامية حتى لا يرموا الكرة في ملعب جلالة الملك ويضعوا جلالته في مواجهة شعبه الذي يحبه ويحترمه، ولكي لا يصبح جلالته بين نارين: نار الحرية التي عبر عنها وقال يوماً أن سقفها السماء. ونار هذا القانون الذي لن يسمح للأردنيين بالتعبير عن آرائهم وممارسة حريتهم في التكلم بما يخص هذا الوطن.
كما وإننا نؤكد كأردنيين بأننا ضد أي تجاوز أو مساس أو تعدي على الآخرين وعلى حرياتهم، وأننا مع تشخيص الجرائم التي تتداولها المواقع الالكترونية وكل مواقع التواصل الاجتماعي على الشيكة العنكبوتية ومع تحديدها لمنع التجاوزات والإضرار بالآخرين، ولكننا أيضاً ضد هذا القانون الذي يكمم أفواهنا ويجعلنا دمى تكتفي بهز رأسها ولا تقوى على المشاركة في النقد البنَّاء الهادف الذي يعزز مسيرتنا الديمقراطية ويصون حق الانسان ويجعل الجميع يشارك في بناء هذا الوطن الذي لن نرضى له بديل؛ فهنا وُلدنا وهنا عشنا وهنا سنموت في يومٍ ما؛ فدعونا نعيش بعزةٍ وكرامة حتى ذلك اليوم.
29 / 7 /2023