صراحة نيوز- دكتور. محمد يوسف حسن بزبز
سفير جائزة الملكة رانيا العبدالله للتميز التربوي.
في زمنٍ تتسارع فيه عجلة التكنولوجيا، وتتشابك فيه الأفكار بين الواقع والافتراض، يظلّ المعلّم الأردنيّ منارةً لا تنطفئ، وحارسًا للقيم الأصيلة التي قامت عليها مسيرة الوطن منذ التأسيس. إنّ المعلّم ليس ناقلًا للمعلومة فحسب، بل هو صانع وجدانٍ ومهندسُ فكرٍ ومربّي جيل، يزرع في قلوب الطلبة بذور الانتماء، ويغرس في عقولهم الاتجاهات السليمة التي تجعلهم أكثر وعيًا وقدرة على مواجهة تحديات هذا العصر. فالمعلّم الأردنيّ حين يقف أمام طلابه لا يقدّم درسًا في مادة أكاديمية وحسب، بل يبثّ فيهم معاني المواطنة الحقة، ويعلّمهم كيف يكون حبّ الوطن التزامًا ومسؤولية، وكيف تكون الأخلاق ميزانًا يوجّه السلوك، وكيف يكون العلم سلاحًا في معركة التقدّم والنهضة.
لقد حمل المعلّم الأردنيّ على عاتقه، منذ عقود، رسالة تربوية سامية، امتزجت فيها القيم الدينية والأخلاقية مع معاني الولاء والانتماء للوطن والقيادة.
وهو اليوم، في ظل التحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم، يقف أمام مسؤولية مضاعفة، إذ باتت وسائل التواصل الاجتماعي نافذةً مفتوحةً على كلّ فكر، ووسيلةً مؤثرةً في تشكيل اتجاهات النشء والشباب. وهنا يتجلّى دوره التربوي في تحصين الطلبة بالوعي، وتعليمهم كيف يحسنون التعامل مع هذه الأدوات الجديدة، فلا ينخدعون ببريقها الزائف، ولا ينجرّون خلف محتوى سطحيّ أو مضلّل، بل يوظّفونها في خدمة ذاتهم ومجتمعهم ووطنهم.
وإذا كان لكلّ عصرٍ تحدّياته، فإنّ التحدّي الأكبر في هذا العصر الرقمي هو قدرة الأجيال على التمييز بين الغثّ والسمين. ومن هنا يظهر دور المعلّم الأردنيّ في أن يكون المرشد الذي يضيء الطريق، فيغرس في نفوس طلبته قيم التحقّق من المعلومة، ويعلّمهم أن الحقيقة لا تُؤخذ من عناوين براقة أو مقاطع عابرة، بل تُبنى بالبحث والتفكير النقدي والتحليل الواعي. وهو بذلك يزرع فيهم عادة السؤال، وفضيلة التأمّل، وشجاعة الموقف القائم على الدليل، ليخرج جيلٌ يعرف كيف يقرأ الواقع بعين البصيرة لا بعين البهرجة.
إنّ الاستخدام الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي لا يتحقّق إلا حين يدرك الطلبة أنّها منصّات يمكن أن تكون أدواتٍ بنّاءة إذا استُخدمت بوعي ومسؤولية، وأنّها قد تتحوّل إلى معاول هدم إن تُركت بلا ضابط. والمعلّم الأردنيّ هو من يعلّمهم أن الكلمة مسؤولية، وأنّ الكتابة في فضاء مفتوح تعني توقيعًا باسم القيم التي يحملها الإنسان، وأنّ الحرية الحقيقية لا تعني الانفلات بل الالتزام، ولا تعني الهدم بل البناء. ومن خلال توجيهه الذكي، يعلّم الطلبة أنّ هذه المنصّات يمكن أن تكون مجالًا لإبراز المواهب، ولتبادل الخبرات، ولنشر الأفكار المضيئة التي تخدم الوطن وتنهض بالمجتمع.
ولأنّ الشباب هم الفئة الأكثر تفاعلًا مع هذه المنصّات، فإنّ المعلّم هو من يوجّه طاقاتهم لتكون في خدمة القيم الرفيعة، فيحملهم على أن يكونوا صانعي محتوى نافع لا متلقّين سلبيين، وأن يكونوا دعاة معرفة لا أسرى تفاهة، وأن يحوّلوا الوقت الذي يقضونه على هذه المنصّات إلى استثمار في تطوير الذات لا إلى إهدار في متابعة السطحي والعابر. وهكذا يصبح المعلّم شريكًا في صناعة وعي رقمي رشيد، يوازن بين متطلبات العصر ومقتضيات الهوية.
ولا يمكن الحديث عن دور المعلّم الأردنيّ في هذا السياق من دون الإشارة إلى مكانته التاريخية في بناء الدولة والمجتمع، فقد كان دومًا نموذجًا للعطاء بلا حدود، وقدوةً في النزاهة والالتزام، وصوتًا للحق والخير والجمال. فكم من أجيالٍ مرّت على مقاعد الدراسة وتخرّجت وهي تحمل بصمات معلّم غرس فيهم الثقة بالنفس، وربّاهم على الصدق، وأطلق طاقاتهم نحو الإبداع. واليوم، تتعاظم تلك الرسالة، ليصبح المعلّم ركيزة في مواجهة التحدّيات الرقمية، ودرعًا يحمي النشء من الانجراف وراء التيارات الهدّامة، ومنصةً حقيقية لبناء مستقبل مشرق.
إنّ المعلّم الأردني حين يغرس القيم ويشكّل الاتجاهات السليمة، وحين يوجّه نحو الاستخدام الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي، فإنه يؤدّي رسالة وطنية بامتياز، رسالةً تعكس رؤى وزارة التربية والتعليم ورسالتها في صناعة جيلٍ متوازن، مبدع، منتمٍ، واعٍ بقضاياه المحلية والعالمية. وهو بذلك يثبت أن المعلّم سيظلّ حجر الزاوية في العملية التربوية، وأنّ أيّ إصلاح أو تطوير لن يكتب له النجاح ما لم يكن المعلّم فيه شريكًا فاعلًا، وقائدًا ملهمًا، ورائدًا مخلصًا.
فالمعلّم الأردني ليس مجرد صاحب مهنة، بل صاحب رسالة، يقود الأجيال نحو القيم الراسخة، ويرسم لهم معالم الطريق في عالم متغيّر، ويغرس فيهم أنّ بناء الأوطان لا يتحقّق إلا بالعلم، وأن نهضة الشعوب لا تُصنع إلا على أكتاف الأخلاق، وأن الاستخدام الواعي للتكنولوجيا هو الجسر نحو مستقبلٍ أكثر إشراقًا. وهكذا يبقى المعلّم الأردنيّ هو السارية التي ترفع راية الوطن عاليًا، والقدوة التي تصوغ الأجيال بالوعي والفكر، والرسالة التي لا تعرف الانطفاء مهما تبدّلت الأزمنة وتبدّلت الأدوات.