صراحة نيوز-بقلم / د. أمجد الفاهوم
لا يكون المدير في أي مؤسسة مجرد موظف إداري، بل هو بوصلة الاتجاه وريشة الفنان التي ترسم ملامح اللوحة. فإذا كانت الريشة بيد حكيمٍ بصير، خرجت اللوحة متناسقة زاهية الألوان، وإذا أمسكتها يدٌ مرتبكة ضاعت الملامح وغاب الجمال.
كثيرًا ما يشتكي العاملون من مدير يغرق في تفاصيل لا تنتهي، ويفتح الملفات بعد أن أُغلقت، ويلاحق الموظفين في خطواتهم بدلًا من أن يتابع نتائج أعمالهم. يستسلم لهواه فيحب ويكره بغير معيار، ويعتمد على بطانة سوء تُقصي المبدعين وتقرّب المنافقين، فيحوّل المؤسسة إلى عبء بدلًا من أن يجعلها بيئة للإبداع.
تعني القيادة الحكيمة أن يقود المدير سفينته وهو يعرف اتجاه الرياح، فيوجّه الدفة بحنكة، ويمنح البحّارة ثقة ومساحة ليبدعوا. عندها تتحول المؤسسة إلى بستان تُزرع فيه بذور الثقة فتثمر إبداعًا وعطاءً، بينما تذبل المؤسسة التي تُدار بسطحية وتتحول إلى أرض قاحلة لا حياة فيها.
تُعلّمنا تجارب العالم دروسًا لا تُنسى. حين عاد ستيف جوبز إلى “آبل”، لم يُغرق نفسه في التفاصيل الصغيرة، بل رسم رؤية جديدة جعلت من الشركة أيقونة للإبداع. وعلى النقيض، تهوي بعض مؤسساتنا العربية حين تنشغل قياداتها بالمحسوبيات والصراعات الداخلية، فيضيع التخطيط وتغرق في الفوضى.
يشبه المدير الحكيم الطبيب الحاذق؛ يعالج الجذور بدلًا من مطاردة الأعراض السطحية. يعرف متى يمسك بزمام القرار ومتى يمنح فريقه حرية الاختيار، ويوازن بين الحزم حين يكون ضرورة والتسامح حين يكون حكمة. يضع الشخص المناسب في المكان المناسب بعيدًا عن الأهواء والمصالح الضيقة، فيستقيم البناء وتثمر الجهود. وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «قيمة كل امرئ ما يُحسن»، فجعلها الحكيم ميزانًا لاختيار القادة في كل زمان. وحذّر الشعراء من التردد فقالوا:
إذا كنتَ في أمرٍ فكنْ حازمًا فإنّ فسادَ الرأي أن تترددا
ويؤكد ابن خلدون أن العدل أساس العمران، ليُرسّخ أن الحزم العادل والعلم الراسخ هما حجر الأساس في أي نهضة.
وحين تسمح المؤسسات بانتشار المدير المعوّق فإنها تدفع ثمنًا باهظًا؛ تهبط إنتاجيتها، وتهاجر عقولها، ويتغلغل الإحباط في نفوس شبابها. أما المؤسسات التي تختار قائدًا مستقيمًا صاحب خبرة ورؤية، فإنها تنهض وتزدهر؛ تغدو كالشجرة الطيبة، يثبت أصلها في الأرض، ويرتفع فرعها في السماء، وتُعطي ثمارها كل حين.
إن حكمة الإدارة ورشادتها تُوجّه رسالة واضحة إلى المجتمع وصانع القرار: لا تجعلوا اختيار المدير إجراءً إداريًا عابرًا، بل اجعلوه قضية وطنية. فالقائد العادل يحرس المستقبل، ويصنع الثقة، ويحوّل بيئة العمل إلى فضاء إبداع لا إلى سجن طاقات.
ومن هنا يغدو يقينًا أن استقامة المدير تُنظّم المؤسسة، وحكمته تُراكم رصيدًا في بناء مستقبل المؤسسة والوطن.