صراحة نيوز – بقلم/ د. ماهر عربيات
ينظر للتنشئة السياسية في ادبيات علم السياسة الى انها تلك العملية التربوية والتعليمية التي يخضع لها الفرد من اجل بناء دوره في المجتمع , ومساهمته في الشأن العام والتأثير في المنظومة السياسية وتوجيه عملها, ومن خلالها ينقل المجتمع ثقافته السياسية من جيل الى آخر , فهي جزء من التنشئة الاجتماعية التي يكتسب الفرد من خلالها القيم والتوجهات السياسية السائدة في محيطه السياسي والاجتماعي . والمتعارف عليه ان الثقافة السياسية لمجتمع ما ,هي نتاج لعملية التنشئة السياسية لذلك المجتمع وان الاتجاهات والانماط السلوكية ومجموعة القيم التي تتضمنها هذه الثقافة ماهي الا انعكاس لطبيعة التنشئة السياسية التي يتعرض لها افراد المجتمع , ولابد من الاشارة الى ان غالبية الانظمة السياسية تسعى الى توظيف عملية التنشئة لغرس الاتجاهات والقيم والمفاهيم السياسية التي تنسجم مع قيم وتوجهات تلك الانظمة سواء عبر المؤسسات التعليمية او من خلال وسائل الاعلام الرسمية . ومع ان الاحزاب السياسية تحظى بدور بارز كأداة من ادوات التنشئة السياسية بوصفها وسيلة التنوير السياسي والمعنية بالنهوض في مستوى الوعي السياسي سواء من خلال قنوات التنشئة السياسية او عبر الخطاب الاعلامي الحزبي والممارسة السياسية السليمة للديمقراطية , الا ان عمق الموروث الثقافي لايزال سببا جوهريا في استحالة استنهاض الديمقراطية والتعددية السياسية في مجتمعاتنا , ذلك لان منهج التسلط واسلوب الفرض والاملاء والانفراد بالرأي لايزال قائما في التنشئة والتعليم كثقافة تقليدية تحرص النخب الحاكمة على اعادة انتاجها تجنبا للالتزام بالخطط والبرامج التنموية . و نجاح عملية التنشئة السياسية لا يتوقف على مدى التلقين المباشر او غير المباشر للفرد , ولا تقوم هذه العملية على اساس اشباع ذهن المتلقي بمفاهيم مثل الديمقراطية , والحرية , والمساواة والعدالة , وانما تخضع لمدى ممارسته الفعلية لتلك الحقوق والدفاع عنها والتزامه بها كمبادئ ذات قيمة عليا في المجتمع , وايمانه المطلق بها , والتسليم بها كحقوق للغير . من الصحيح القول ان التربية القائمة على التلقين هي احدى الوسائل السائدة في العلاقات التربوية التي تسهم في تكريس الطاعة واخماد بوادر الرفض والمعارضة , والافراط في العنف او التوبيخ والسخرية , ومصادرة حق ابداء الرأي , واحتكار حق امتلاك الحقيقة من قبل معلمين او آباء او قادة مجتمع لايمكنهم الادعاء بالقدرة على التنشئة السياسية . فالتنشئة السياسية الملتزمة بالنهج الديمقراطي تسعى الى ترسيخ مبدأ قبول الآخر واستيعابه لا اقصائه , واحترام التباين في المواقف والاتجاهات, و تأهيل الفرد وتثقيفه سياسيا وتمكينه من القدرة على ممارسة دوره في المجتمع , وتخليص المجتمع من الثقافة السياسية المشوهة , وتطوير وبلورة السياسات التي تجعل من الحرية الفكرية للفرد وثقافته السياسية قيمة عليا في المجتمع , وعلى هذا الاساس ينبغي الاقرار بالتنشئة السياسية والتعاطي معها بوصفها تنشئة عمل اكثر مما هي تنشئة نظر, اولوياتها ترسيخ القيم والمبادئ السياسية السائدة في المجتمع لدى الفرد ليصبح مواطنا صالحا , مترجما لتلك المبادئ والقيم الى سلوك يومي يؤسس للاستقرار السياسي ويسهم من خلاله في تنمية المجتمع , حقيقة ان الانسان هو المحور الاساسي للتنمية بكافة اشكالها وعلى رأسها التنمية السياسية بمفهومها الواسع الذي يشمل التنشئة السياسية التي تعتبر جوهر عملية التنمية السياسية . لكن التسليم بهذا الواقع لايتأتى جزافا , انما يتوقف على ماهية البيئة الثقافية السائدة التي ينشأ في ظلها الفرد , وكيفية بنائها والاعداد لها ومن ثم تفاعله معها سلبا ام ايجابا , كأي منتج تتحدد جودته او رداءته استنادا لطبيعة المدخلات , فان صلحت مدخلاته صلحت مخرجاته والعكس صحيح .