صراحة نيوز- بقلم / معاذ وليد ابو الدلو
أيام قليلة ونقترب من دخول العام الثالث للعدوان المستمر على قطاع غزة، تلك البقعة الجغرافية الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها مساحة حي من أحياء بعض المدن في الدول متوسطة المساحة، نجد أنفسنا أمام مشهد إنساني مأساوي لم يشهد التاريخ الحديث له مثيلاً. فقد تحولت غزة إلى عنوان يومي لانتهاك الكرامة الإنسانية، إذ مارست آلة الحرب الإسرائيلية كافة أشكال الاعتداء على البشر والحجر، بل وحتى على الحيوان، في صورة صادمة تنسف كل ما تبقى من شعارات حقوق الإنسان التي يرفعها ويتبناها المجتمع الدولي.
ورغم مرور هذه الشهور الطويلة المليئة بالمجازر والانتهاكات، ما تزال الماكينات القانونية والسياسية الدولية مهمشة ومعطلة وغير قادرة على إيقافها، في حين يتصدر المشهد صوت السلاح والآلة العسكرية الإسرائيلية التي تفرض واقعاً من الدم والدمار والاعتداء على الحريات والكرامات، أما المواقف الدولية فظلت حبيسة بيانات الشجب والتنديد التي تصدر بين الحين والآخر، والاعترافات المعنوية، والتي غالباً ما تأتي استجابة لضغوط الشارع في الدول أو الحملات الإعلامية المؤقتة، لا كتعبير عن موقف سياسي أو دبلوماسي جاد إزاء ما يُرتكب من جرائم ضد الإنسانية.
الأرقام المفزعة تروي حكاية لا تحتاج إلى تأويل. فقد تجاوز عدد الشهداء في غزة حتى اليوم 66 ألف شهيد، فيما بلغ عدد الجرحى والمفقودين أكثر من 167 ألفاً. أما الأطفال، فقد ارتقى منهم ما يزيد على 19 ألف طفل، والنساء 13 ألف امرأة، بالإضافة لضحايا التجويع المتعمد الذي تجاوز 500 نصفهم من الأطفال، مما يطرح تساؤلات موجعة حول مصداقية العالم في حماية حقوق الطفل والمرأة التي لطالما تغنّى بها في مؤتمراته ومواثيقه. كبار السن لم يسلموا بدورهم، إذ تجاوز عدد الشهداء منهم 4500 مسن، بينما استشهد من الطواقم الطبية أكثر من 1140، ومن الصحفيين 240، ومن موظفي وكالة الأونروا 200 موظف وما يزيد.
هذه الأرقام التي تبقى تقريبية وقابلة للزيادة، ليست مجرد إحصاءات، بل هي شواهد دامغة ودليل على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية موثقة بالصوت والصورة.
وإذا انتقلنا إلى الضفة الغربية، فإنها تعاني بدورها من اعتداءات واقتحامات وعمليات تهجير ممنهجة، حيث تجاوز عدد الشهداء فيها 1100 شهيد، ما يكشف أن الإستراتيجية الإسرائيلية لا تقتصر على غزة، بل تستهدف الوجود الفلسطيني برمته.
أمام هذه الوقائع، يبرز السؤال الجوهري: لماذا تفقد أرواح عشرات الآلاف من الفلسطينيين قيمتها في ميزان الإنسانية، في حين أن حادثا يؤدي إلى وفاة شخص واحد في دولة ما تبعد عن جغرافيتنا العربية يستدعي استنفاراً سياسياً وإعلامياً عالمياً؟ أليس هذا أصدق تجسيد لازدواجية المعايير والكيل بمكيالين في النظام الدولي الراهن للأسف؟
القانون الدولي، والدولي الإنساني بما يتضمنه من مواثيق واتفاقيات، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات الملحقة بها، فضلاً عن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يجرّم بوضوح ما يجري في غزة من استهداف للمدنيين وتدمير للبنية التحتية وحرمان من مقومات الحياة الأساسية البسيطة.
غير أنّ هذه النصوص القانونية نرى بأنها حبراً على ورق، رهينة للاعتبارات السياسية وموازين القوى الدولية. فالمجتمع الدولي يطبق القانون حين تتوافق مصالحه مع ذلك، ويتجاهله حين تمس المخالفة إسرائيل أو حلفاءها.
إن استمرار هذه الحرب وما يرافقها من تعطيل للأدوات القانونية الدولية يشكل تهديداً لمصداقية النظام القانوني والسياسي العالمي برمته. فإذا عجزت الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، والمنظمات الحقوقية الكبرى عن وقف المجازر أو محاسبة مرتكبيها، لغاية اللحظة فإن الرسالة التي يتلقاها العالم هي أن العدالة ليست سوى شعار انتقائي يُفعّل في قضايا ويُعطّل في أخرى.
خلال ساعات تدخل غزة عامها الثالث من النزيف الإنساني والقانوني والسياسي في ظل صمت دولي مطبق، وتواطؤ غير معلن، وتغليب لمعادلة القوة على معادلة الحق. وإذا لم يتحرك الضمير الإنساني والمجتمع الدولي لفرض إجراءات سياسية وقانونية حقيقية، فإن ما نشهده اليوم سيسجل كوصمة عار في تاريخ البشرية بالعصر الحديث، ودليل إضافي على أن القانون الدولي وحقوق الإنسان لم تعد إلا أدوات انتقائية تُستخدم حين يراد، وتغيب حين يتعلق الأمر بدول غير محسوبة على الكبار.